للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يعرف المظلوم من الظالم والشكية عنده لمن سبق، ولا يهتدى لمن صدق، ولا يقدر أحد من عظم منزلته أن يردّ كلمه ويشتط اشتطاط الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان، صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين». ويأخذ ابن مماتى فى سرد أحكام قراقوش المضحكة. من ذلك أن سيدة سوداء شكت لقراقوش جارية مملوكة لها، فعجب أن تكون امرأة بيضاء خادمة لسيدة سوداء، فردّ شكواها مؤمنا بأنها ليست السيدة بل هى الجارية، والجارية البيضاء هى السيدة، وهمّ بحبسها لولا أن شفعت فيها جاريتها فعفا عنها. ومن ذلك أن رجلين من أصحاب اللحى الطويلة جاءاه يشكوان إليه رجلا أجرد كان يعبث بلحيتيهما، ونظر قراقوش إلى الرجل فلم يجد له لحية حينئذ صرخ فى الرجلين قائلا: إنهما اللذان اعتديا عليه بنتف لحيته، وصاح فى غلمانه أن يزجّوا بالرجلين فى غياهب السجون حتى ينبت الشعر فى ذقن الرجل وتطول لحيته. ومن ذلك أن الشرطة جاءته بحدّاد له قتل نفسا محرمة بغير حق، فأمر بشنقه فقيل له إنه حدادك الذى ينعل لك الفرس، فنظر أمام بابه فرأى رجلا قفّاصا فقال: «اشنقوا القفّاص وسيّبوا (اتركوا) الحداد. وعلى هذا النحو يصور ابن مماتى قراقوش متصرفا فى القضايا بحمق ما بعده حمق، ونضحك للتضاد بين المقدمات والنتائج، تباينا يضيع فيه المنطق، فسيدة تدخل شاكية لخادمتها، فتخرج خادمة والخادمة تصبح سيدتها، ورجل يدخل بدون لحية، فيخرج وله لحية نتفت، أو قل يدخل جانيا ويخرج مجنيا عليه، وقاتل يبرّأ وبرئ يقتل.

وما نظن أحدا فى مصر قديما بلغ من التشهير بحاكم ما بلغه ابن مماتى من التشهير بقراقوش وأحكامه بين الناس عن طريق هذه النوادر الشعبية التى اختار لها لغة المصريين الدارجة لزمنه قاصدا بذلك أن تشيع بين العامة، وهى فعلا شاعت أكبر شيوع وأوسعه فى مدن مصر وريفها، فكلما اشتكوا من حاكم وظلمه قالوا: «حكم ولا حكم قراقوش».

وأضافت الحقب التالية إلى شخصية قراقوش نوادر مضحكة بجانب ما فى كتاب الفاشوش من نوادر كثيرة، مما جعل السيوطى يؤلف كتابا يستعير له اسم كتاب ابن مماتى، مضيفا فيه إلى قراقوش نوادر جديدة. وكأنما أصبحت شخصية قراقوش فى الأزمنة التالية شخصية خيالية لكل حاكم أحمق يخلط حمقه بظلمه. وأكبر الظن أن كلمة قراقوز التى تطلق فى تركيا والشام على خيال الظل وتصويره للحكام الظالمين الحمقى ترجع فى اشتقاقها إلى اسم قراقوش لا إلى ما يقال من أنها مؤلفة من لفظتين تركيّتين هما «قره» أى أسود و «قوز» أى عين وبذلك يكون معناها العين

<<  <  ج: ص:  >  >>