الأندلس لمدة ثلاثة قرون من الاضطرابات والحروب الأهلية وأن تتوزع إلى أندلسات كثيرة. كما حدث فى القرن الخامس الهجرى لعهد ملوك الطوائف.
وهذا الحكم الوراثى حاكى فيه عبد الرحمن وأبناؤه وأحفاده حكم أسلافهم الأمويين فى دمشق، وكانوا-مثلهم-حكاما مستبدين لا يشركون فى حكمهم أحدا، فكل أزمّة الحكم بأيديهم، وسنرى عوامل فى الأندلس تلطّف هذا الحكم الاستبدادى وتخفّفه، إذ كان علماء الدين والقضاة والعامة يأبون فى أحوال كثيرة إلا أن يسمع لهم ويؤخذ بوجهات نظرهم، ولا نصل إلى عهد عبد الرحمن بن الحكم حتى ينشئ فى الأندلس نظاما للوزارة يشبه نظمها الحديثة. وعلى نحو ما كان الخلفاء الأمويون فى دمشق يتخذون لأبنائهم المؤدبين والمعلمين كذلك اتخذ عبد الرحمن الداخل وأبناؤه المعلمين والمؤدبين لأبنائهم فى قرطبة، وكان لذلك أثره فى رعاية الأمويين فى الأندلس للأدب وأهله وأيضا للعلم وأصحابه على نحو ما كان أسلافهم فى دمشق يرعونهم. واستنّوا سنة أسلافهم فى بناء القصور بالبادية على نحو ما نعرف عن هشام جد الأسرة من بنائه لنفسه قصرا بعيدا عن دمشق فى البوادى سماه الرّصافة أو منية الرصافة، وحاكاه فى قرطبة حفيده عبد الرحمن الداخل فبنى لنفسه قصرا شمالى قرطبة سوى قصره المواجه لجامعها الكبير اتخذه للتنزه ولسكناه فى كثير من أوقاته، وتبعه أبناؤه يبنون لأنفسهم قصورا خارج قرطبة، وكانوا كذلك يبنون دورا لأبنائهم يعلّمون فيها ويؤدّبون. واقتدى عبد الرحمن بأسلافه فى بناء الجوامع والمساجد، وقد بدأ بناء جامع قرطبة الكبير وظل الأمراء بعده يزيدون فيه حتى أصبح يضارع الجامع الأموى الكبير فى دمشق، إن لم يتفوق عليه، وبنى مسجدا فى إشبيليه وفى بلدان أخرى متعددة. وعنى عبد الرحمن الداخل بالتنظيم الإدارى والشئون المالية على نحو ما كان يعنى أسلافه الأمويون فى دمشق. ومن تتمة هذه المحاكاة لأسلافه اتخاذه دارا للسكة وضرب العملة فيها باسمه، واتخاذه مذهب الأوزاعى فقيه الشام المتوفى سنة ١٥٧ للهجرة أساسا للفتوى والقضاء فى الأندلس، ومن تتمة ذلك أيضا أن نجده يسمى وزيره عبد الواحد بن مغيث الغسانى حاجبا بالضبط كما كان يسمى أسلافه فى دمشق وزراءهم، وظل ذلك بعده فترة.
وشغل عبد الرحمن الداخل-وأبناؤه بعده-بثورات داخلية كثيرة على نحو ما شغل أسلافهم فى دمشق بثورة ابن الأشعث فى العراق وثورات الخوارج والشيعة، وكانت ثورات الأندلس دائما حادة عنيفة بسبب ما كان بها من عصبيات-تحدثنا عنها-بين اليمنية والمضرية، وبين العرب البلديين والشاميين، وبين العرب والبربر، وأخذت تظهر