للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وظل كثير من صور هذا الثراء الواسع ماثلا فى عهد أمراء الطوائف، وهو يتضح فى تنافسهم فى بناء القصور والتفنن فى كل ما يتصل بها من أناقة وتنميق على نحو ما يصور ابن بسام ذلك فى وصفه لقصر المكرم للمأمون بن إسماعيل بن ذى النون حين احتفل فيه بإعذار لحفيده يحيى، ونشعر كأننا انتقلنا إلى قصر مسحور من قصور ألف ليلة وليلة لكثرة ما فيه من ضروب الديباج والطنافس والستائر المزركشة وأزر الحيطان المرمرية وما عليها من تماثيل وصور لحيوانات وأطيار وأشجار وثمار، سوى بحيرتين فى القصر صفّت عليهما تماثيل أسود من الذهب والمياه تنساب من أفواهها. ونعجب أن ينفق أمير طليطلة-وهو أقرب أمراء الأندلس إلى ملوك قشتالة والنصارى عامة-هذه القناطير المقنطرة من الذهب على قصره المكرم، ولا يكاد يبقى فى خزائنه ما لا يشترى به سلاحا للقاء أعدائه، وما هى إلا سنوات حتى سقطت طليطلة من يد حفيده يحيى فى حجر ألفونس السادس ملك قشتالة. ولم يكن المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية يقل عن المأمون فى طليطلة إسرافا فى بناء قصوره والإنفاق على حظاياه ومجالس أنسه الكثيرة وكان مشغوفا بزوجته اعتماد الرميكية وفى نفح الطيب أنها رأت يوما بإشبيلية نساء البادية حولها يبعن اللبن فى القرب، وهن رافعات-فى الطين-ثيابهن عن سوقهن، فقالت له:

أشتهى أن أفعل مثلهن أنا وجوارىّ فأمر بعنبر ومسك وكافور وماء ورد، وصيّر كل ذلك طينا فى القصر ومعه قرب وحبال من حرير، وخرجت-هى وجواريها-يخضن فى ذلك الطين. ويحكى عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة أنه حين تنازل عن أمواله ليوسف بن تاشفين كان بينها سفط ذهب فيه عشرة عقود من أنفس الجواهر، وتنازلت أمه عن خمسة عشر عقدا نفيسا. وعلى هذا النحو ظل أمراء الطوائف ينعمون بهذا الترف على حساب الشعب، وحقا كانت هناك طبقة وسطى من التجار والصناع ممن كانوا يقدمون أدوات الترف والنعيم للطبقة الحاكمة وحواشيها من الوزراء والولاة والقواد وكبار رجال الدولة، غير أنه كان وراءها طبقة من العامة تكدح وتنصب لطائفة استأثرت لنفسها بزينة الحياة.

على أنه ينبغى أن لا نبالغ فى صور ما كانت تعيش فيه الطبقة العامة من شظف فى الحياة أو بؤس لكثرة ما كان فى الأندلس من طيّبات الرزق، وقد ظلت تنعم بما فيها من ثراء لعهدى المرابطين الموحدين ونرى آثاره فى بناء السلطان يعقوب الموحدى لجامع إشبيلية ومئذنته «الخير الدا» التى لا تزال قائمة إلى اليوم، أما الجامع فأحاله المسيحيون إلى كنيسة، وما كان أحراهم أن يبقوه متحفا-على مر الزمن-يعرض مهارة الفنان الأندلسى فى المعمار والزخرفة. وحرى بنا أن نذكر أنه كان بالأندلس غابات كثيرة هيأت

<<  <  ج: ص:  >  >>