للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يقول إن السماء تبكى بسحبها على السادة من بنى عباد الذين كانت الأندلس ترسو بهم كما ترسو الأرض بالجبال وإن قصورهم بإشبيلية لغابة اقتحمتها الكوارث على أسد مفترسة وحيّات ضخمة سامة. ويعزّى ابن اللبانة نفسه وأهل إشبيلية بأن لهم أسوة فى خلع آل عباد بمن خلعوا قبلهم من الخلفاء العباسيين. ويلتفت إلى من كانوا ينزلون بالمعتمد وآبائه طالبين القرى والضيافة، فيقول لهم إن بيت الكرم والجود أغلقت أبوابه، فاستعدوا للرحيل واجمعوا بقايا الزاد إن كانت هناك بقايا، ويقول لمن كانوا يأوون إلى ظلالهم رحل السكان وجفّ الزرع بالوادى الذى كان خصبا ممرعا. ويصوّر مشهد المعتمد وأهله، وقد هبطوا من قصورهم لركوب السفن فى نهر إشبيلية الكبير متجهين إلى طنجة وقد تجمع أهلها يودّعونهم، يقول:

نسيت إلا غداة النّهر كونهم ... فى المنشآت كأموات بألحاد

والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزباد (١)

حطّ القناع فلم تستر مخدّرة ... ومزّقت أوجه تمزيق أبراد (٢)

حان الوداع فضجّت كلّ صارخة ... وصارخ من مفدّاة ومن فادى

سارت سفائنهم والنّوح يصحبها ... كأنها إبل يحدو بها الحادى

كم سال فى الماء من دمع وكم حملت ... تلك القطائع من قطعات أكباد (٣)

يقول إننى مهما نسيت فلن أنس رحيل المعتمد وآله فى السفن، وكأنها مقابر نزلوها والناس قد ملأوا الشاطئين متعجبين لتلك اللآلئ من النساء تطفو على الماء فوق زبده ولا ترسب فى القاع. ويقول إنهن سرن من قصورهن سافرات لحزنهن يلطمن ويخمشن وجوههن بأظافرهن لفجيعهتن. وضج الرجال والنساء على الشاطئين، وضجّ من فى السفن وضج المفدّون الملوحون لهم بأيديهم، وسارت السفن يصحبها الندب والنواح كما يصحب الحداء الإبل السائرة فى الصحراء، وكم سال فى ماء الوادى الكبير من دمع وكم حملت تلك السفن من فلذات أكباد. والمرثية طويلة. ووفد ابن اللبانة على المعتمد فى أغمات-كما يقول ابن بسام-وفادة وفاء لا وفادة استجداء، وانقطع إليه انقطاع وداد لا انقطاع استرفاد، ويقول إنه مدحه للوفاء بأحسن مما مدحه به للعطاء، وبذلك ملأ قلوب العرب فى كل مكان-إلى اليوم-عطفا على المعتمد. وكأنما غسل بدموعه عليه


(١) العبرين: الشاطئين.
(٢) المخدرة: السيدة ملازمة الخدر أو البيت.
(٣) القطائع مثل المنشآت: السفن.

<<  <  ج: ص:  >  >>