للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول ابن بشكوال: كان منقطع القرين فى الزهد والورع، ويذكر ابن سعيد أنه كان لا يكلم-ولا يجالس-أحدا، وكان أكثر دهره مفكرا وجهه على ركبته، ومن شعره:

أنا فى حالتى-التى قد ترانى ... إن تأملت-أحسن الناس حالا

منزلى حيث شئت من مستقرّ ال‍ ... ‍أرض أسقى من المياه زلالا (١)

ليس لى كسوة أخاف عليها ... من مغير ولا ترى لى مالا

أجعل الساعد اليمين وسادى ... ثم أثنى-إذا انقلبت-الشّمالا

وهو لا يملك منزلا يقيه البرد وينام فيه ليلا ولا ثوبا غير الثوب الذى يستر جسده ولا مالا يكنزه، ويرى نفسه بذلك أسعد الناس لأنه لا يملك شيئا يخاف عليه من مغير أو ناهب، وحسبه جرعات من ماء عذب، وإذا نام اتخذ يمينه وساده، فإن تعب ثنى الشمال وسادا. ويقول ابن سعيد: كان إذا أصبح ونظر إلى استيلاء النور على الظلمة رفع يديه إلى السماء قائلا: اللهم إنك أمرتنا بالدعاء إذا أسفرنا (٢)، فاستجب لنا كما وعدتنا، اللهم لا تسلّط علينا فى هذا اليوم من لا يراقب رضاك ولا سخطك، اللهم لا تشغلنا فيه بغيرك، اللهم لا تجعل رزقنا فيه على يد سواك، اللهم امح من قلوبنا الطمع فى هذه الفانية كما محوت بهذا النور هذه الظلمة، اللهم إنا لا نعرف غيرك فنسأله، يا أرحم الراحمين، يا غياث من لا غياث له. ومن قوله:

تنام وقد أعدّ لك السهاد ... وتوقن بالرحيل وليس زاد

وتصبح مثل ما تمسى مضيعا ... كأنك لست تدرى ما المراد

أتطمع أن تفوز غدا هنيئا ... ولم يك منك فى الدنيا اجتهاد

إذا فرّطت فى تقديم زرع ... فكيف يكون من عدم حصاد

وهو يقول مخاطبا: كيف تنام وقد هيّئ لك سهاد، كى تعبد الله حق عبادته، وكيف توقن بأنك راحل عن دنياك وأنت لم تهيئ لنفسك زادا لرحلتك، وتصبح وتمسى لا تدرى من أمرك شيئا فكيف تطمع فى الفوز بقبول الله لك ورضاه عنك وأنت لم تؤد حقه من العبادة والنسك، وهل يمكن لشخص قصّر فى رعاية زرعه أن يحصد منه شيئا. ونلتقى فى عصر أمراء الطوائف بأبى إسحق الإلبيرى، وسنخصه بكلمة، وكان يعاصره الطّيطل (٣)


(١) زلالا: عذبا.
(٢) أسفرنا: أصبحنا.
(٣) انظر فى الطيطل وترجمته وشعره الذخيرة ٢/ ٧٩٧ والجذوة ٢٩٤ والبغية رقم ١٢١٢ والذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشى القسم الأول من الجزء الخامس ص ١٩٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>