للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلا بربه غير مفكر فيما سواه، ولا توكل، لأنه يتخلص من كل تدبير لنفسه راضيا بكل ما يكون من تدبير ربه، ولا صبر لأنه ليس هناك ما يحتاج إلى صبر، إذ كل ما يسوقه الله تصحبه الرأفة والرحمة، ولا حزن لأنه لا يوجد شئ مما قدّره الله يوجب الحزن، ولا خوف من عذاب أو عقاب، ولا رجاء فى تحقيق شئ، ولا شوق إلى أى شئ، إذ الصوفى لا يرجو ولا يشتاق إلا ربه: ولا شكر إذ الصوفى لا يميز بين المنحة والمحنة أو النعمة والشدة. ومنزل واحد يتعلق به الصوفى هو المحبة للذات العلية والخلوص لله، بحيث لا يكون هناك أى شئ سواه، يقول: «إنما عين الحقيقة عند القوم أن يكون الصوفى قائما بإقامة الحق له، محسا بمحبته له، ناظرا بنظره له، من غير أن تبقى منه بقية تقف على رسم أو تناط باسم، أو تتعلق بأثر، أو توصف بنعت أو تنسب إلى وقت». وابن العريف بذلك كله يصور مدى اتصال الصوفى الحق بربه، بحيث لا يكون فيه أى شئ من فكر أو جسم سوى الفناء فى الله، وهو بكل ذلك صوفى سنى، ومن الخطأ الظن بأن فى تصوفه شية من وحدة الوجود أو الاتحاد بالله، ومن طريف شعره الصوفى قوله:

سلوا عن الشّوق من أهوى فإنّهم ... أدنى إلى النّفس من وهمى ومن نفسى

ما زلت-مذ سكنوا قلبى-أصون لهم ... لحظى وسمعى ونطقى إذ هم أنسى

فمن رسولى إلى قلبى ليسألهم ... عن مشكل من سؤال الصّبّ ملتبس

حلّوا الفؤاد، فما أندى! ولو وطئوا ... صخرا لجاد بماء منه منبجس (١)

وفى الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قرّوا على أذكى من القبس (٢)

لأنهضنّ إلى حشرى بحبّهم ... لا بارك الله فيمن خانهم فنسى

وابن العريف يتحدث عن شوقه لربه، مع أنه أقرب إلى نفسه من وهمه وأنفاسه، ويقول إنهم مذ نزلوا قلبه يقصر عليهم لحظه وسمعه ونطقه، فهم كل أنسه. ويتساءل هل هناك من يبلغهم ما فى قلبه من صبابته وحبه ويقول: ما أروحهم على فؤاده، ولو وطئوا صخرا لتفجر منه الماء، وقد سكنوا فى حشاه المضطرم بحبهم، ويعجب منهم-والوهم يجرحهم-أن يسكنوا فى ناره المتقدة، ويقول إنه سيظل-إلى الحشر-وفيا بعهدهم وحبهم لا ينساهما أبدا، ويقول:

قفا وقفة بين المحصّب والحمى ... نصافح بأجفان العيون المغانيا (٣)


(١) منبجس: منفجر.
(٢) قرّوا: سكنوا واستراحوا.
(٣) المحصب: موضع رمى الجمار بمنى. المغانى: المنازل.

<<  <  ج: ص:  >  >>