للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بأصباغ الفلسفة. وكان من تلاميذ ابن رشد، وعنه أخذ العلوم القديمة، وكان شديد الشغف به والإعجاب بفلسفته وفكره، فلما توفى سنة ٥٩٥ أظلمت الدنيا فى عينيه وكأنما طعن فى كبده فأمسك بالقلم وكتب إلى بنيه يعزيهم-وقد حزّ فى نفسه الجزع وعضّها الوجع- تعزية ملتاع أضرمت اللوعة نارا فى فؤاده، وفيها يقول:

«لا أقول كفى ولا أستشعر صبرا، وقد أسكن نور العلم قبرا، بل أغرق الأجفان بمائها، وأستوهب الأشجان غمرة (١) غمّائها، وأتهالك تهالك المجنون، وأستجير من الحياة بريب المنون، وأنافر السلوّ منافرة اليقين لوساوس الظنون. وهو الخطب الذى نفى الهجود (٢)، وألزم أعين الثّقلين أن تجود، وبه أعظم الدهر المصاب، وفيه أخطأ سهم المنية حين أصاب، والدهر يسترجع ما وهب، كان الصّفر (٣) أو الذّهب، ولا غرو أن دهم (٤) الرّزء، يؤود (٥) الفلك الدائر منه الجزء. . وإنا لله لفظة أوليها، وأتبعها زفرة تليها، ولقد بحثت الأيام عن حتفها بظلفها، وسعت على قدمها إلى رغم أنفها، حين أتلفت الواحد يزن مائة ألفها، فمن لبثّ الوصل ولرعى الوسائل (٦)؟ وإلى من يلجأ فى مشكلات المسائل؟ ومن المجيب إذا لم يكن المسئول بأعلم من السائل؟ اللهم صبّرنا على فقد الأنس بالعلم، وأدلنا (٧) من خفوف الوله بوقار الحلم، وأخلفه فى بنيه وعامة أهليه بشبيه، ما أوليته فى جوارك المقدّس وتوليه»

والتعزية طويلة، وجميعها-على هذا النحو-توجّع وتفجع لهذا الرزء الفادح الذى نزل بالأندلس لفقد فيلسوفها العظيم منقطع القرين: ابن رشد. وكتب صديق لسهل يعزيه عن محنته بنفيه إلى مرسية وغربته، فردّ عليه برسالة يقول فيها:

«أنا أستوهب لك أيها الشيخ الأخ الجليل عافية لا تعفو (٨) بألسن الحسّاد، ولا تقفو (٩) موادّها أعين السعاة البغاة الذين ما لهم مقعد إلا بالمرصاد، وأثنى على كرم طباعك بوصول رسالتك التى طلعت على ليلى البهيم (١٠) صباحا، وأدارت علىّ من التسلّى والتعزّى أقداحا. . ويعلم الله أيها العلم علما وفهما، أنى لولا مخاطبتك ومثالك (١١)


(١) غمرة غمائها: شدة شدائدها.
(٢) الهجود: النوم.
(٣) الصفر: النحاس.
(٤) دهم: فجأ. الرزء: المصيبة.
(٥) يؤود: يثقل ويجهد.
(٦) الوسائل: الصلات.
(٧) أدلنا: انصرنا.
(٨) تعفو: تنطمس.
(٩) تقفو هنا: تحيط بها.
(١٠) البهيم: المظلم.
(١١) مثالك: يريد مثال مخاطبه وشخصه.

<<  <  ج: ص:  >  >>