من ذلك أنه حمل مذهب داود الظاهرى وكتبه وظل يؤثره ويحتج لمقالته، مع أنه كان قاضيا فى بعض مدن الأندلس، والقضاء فيها كان مالكيا يلتزم القضاة فيه بمذهب مالك وفتاويه وفتاوى تلاميذه المصريين، واشتهر منذر بأنه إنما كان يأخذ بالمذهب الظاهرى فى نفسه فإذا جلس للحكومة والقضاء بين الناس قضى بينهم وحكم بمذهب مالك الذى استقر عليه العمل فى الأندلس. وثقف فى رحلته الاعتزال كما ثقف المذهب الظاهرى، وكان يحتج له كما يحتج للمذهب الظاهرى دون إفراط، مع الأخذ بالسنة والورع والرد على أهل الأهواء والبدع. وفى سنة ٣٣٠ أتيحت له فرصة عظيمة عندما أقيم بقصر الناصر فى قرطبة حفل استقبال ضخم لسفير بيزنطة الذى جاءه يحمل إليه بعض الهدايا من لدن الإمبراطور، وتقدم ابنه وولى عهده الحكم إلى أبى على القالى العالم اللغوى المشهور، وكان قد وفد على قرطبة ودوّت شهرته فى الأندلس، فسأله أن يلقى خطبة أمام أبيه يبين فيها فخامة الخلافة الأموية بالأندلس وما تهيأ للناصر من توطيد الحكم فى بلده، فقام القالى وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم، وأرتج عليه وانقطع عن الكلام، فلما رأى ذلك منذر-وكان حاضرا-قام فوصل افتتاحه بخطبة طويلة بليغة على غير أهبة مفتتحا لها بقوله:
«أما بعد حمد الله والثناء عليه، والتعداد لآلائه، والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيّه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقاما، ولكل مقام مقالا، وليس بعد الحقّ إلا الضلال، فافقهوا عنى بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمحقّ صدقت، وللمبطل كذبت. .
وإنى أذكرّكم بأيام الله عندكم وتلافيه لكم بخلافته أمير المؤمنين التى لمّت شعثكم، وأمّنت سربكم».
ومضى يتحدث عن تلافى الناصر للفتن التى كانت عمت آفاق الأندلس، وفصّل القول فى انتصاراته وفتوحاته وعدالته وما حظيت به الدولة لعهده من مكانة جعلت الروم يخطبون مودتها. وينصح الناس بالتزام الطاعة لخليفتهم وابن عم نبيهم الناصر، ويختم خطبته بالحمد لله والاستغفار. وبهرت الخطبة المجتمعين وخرجوا يتحدثون عن بلاغة منذر وحسن بيانه وثبات جنانه، وأعجب به الناصر إعجابا شديدا، فولاه الصلاة والخطابة بمسجده الجامع فى مدينته الزهراء التى بناها بجوار قرطبة، ثم ولاه قضاء الجماعة، فأصبح قاضى القضاة فى الأندلس جميعا، وظل على ذلك فى حكم الناصر وحكم ابنه الحكم إلى أن توفى سنة ٣٥٥. وكان الناصر قد مضى فى بناء مدينته الزهراء وتأنق فيها