للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النفوس إنابة وندامة، ويذكّرها هول يوم القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة، والوجهة المفلحة الناجحة».

ويصف بغداد ومساجدها ومبانيها وأسواقها ومحالّها، ويغادرها إلى الموصل فحلب، وتروعه مبانيها وقلعتها وجامعها والمدرسة الملحقة به وكأنهما فى الحسن روضة تجاور أخرى. ويصل دمشق جنة المشرق وعروس المدن، وتروعه بساتينها المحدقة بها إحداق الهالة بالقمر وما يمتد بشرقيهّا من غوطتها الخضراء بحللها السندسية البديعة، وينوه بحسنها، ويقول صدق القائلون عنها: «إن كانت الجنة فى الأرض فدمشق لا شك فيها، وإن كانت فى السماء فهى بحيث تسامتها (تقابلها) وتحاذيها». ويطيل الوصف لمسجدها الأموى العظيم وما به من عمد وقباب وأبواب وما عليها من نقوش وما يمتد على حيطانه وسقوفه من الفسيفساء البديعة وما به من مقاصير وغرائب التصاوير. ويفيض فى الحديث عن مشاهد دمشق وأسواقها ومدارسها ومارستانها وما بها من خانقاهات للمتصوفة.

وأشاد بأعمال صلاح الدين الأيوبى فى الشام، كما أشاد بها فى الإسكندرية والقاهرة، ونوه بانتصاراته على الصليبيين، وتغلغله فى ديارهم، ولا حظ أن تجارهم وتجار المسلمين يغدون ويروحون فى الدارين: دار الإسلام ودار حملة الصليب دون أى اعتراض، والحرب مع ذلك قائمة بين الفئتين والتجار فى عافية. ويبحر من ميناء عكّا مع التجار النصارى فى إحدى سفنهم المعدّة لسفر الخريف، وكانت متجهة إلى مسّينة فى صقلّية، فنزل بها وتجوّل فى بلدانها، وكان المسلمون قد فتحوا تلك الجزيرة فى مطالع القرن الثالث الهجرى وعرّبوها لمدة قرنين ونصف إذ فتحها النورمان، وكان ملوكهم الأولون يحتضنون الثقافة العربية ويرعون علماءها، ويجلسون منهم مجلس التلاميذ، مما أتاح لصقلّية حينئذ أن تصبح مجازا لعبور الثقافة العربية الإسلامية إلى أوربا وخاصة فى عهد روجر الثانى وابنه غليوم اللذين طبعا حياة الدولة فى أيامهما بالطوابع العربية الإسلامية، ويصوّر ذلك ابن جبير فى حديثه-برحلته-عن غليوم الذى زار الجزيرة فى عهده، فيقول عنه:

«هو كثير الثقة بالمسلمين، وساكن إليهم فى أحواله والمهمّ من أشغاله، حتى إن الناظر فى مطبخه رجل من المسلمين. . ومن عجيب شأنه المتحدّث به أنه يقرأ ويكتب بالعربية، وعلامته (فى أول رسائله) -على ما أعلمنا به أحد خدمته المختصين به- «الحمد لله حقّ حمده»، وكانت علامة أبيه «الحمد لله شكرا لأنعمه». وأما جواريه وحظاياه فى قصره

<<  <  ج: ص:  >  >>