للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تراجعت فى ليبيا وكاد يقضى عليها الدين الحنيف، إذ نجد أبا عبيد البكرى المتوفى سنة ٤٨٧ للهجرة يذكر أنه شاهد القبط فى طرابلس وبرقة لا يزالون يحتفظون بالقبطية فى زمنه ويتحدثون بها فى لغتهم اليومية مع أنها كانت قد اختفت فى ألسنة القبط بمصر وحلّت محلها العربية إلا ما كان فى بعض الأديرة المتعمقة فى الصحراء الغربية، وكان مما عمل على استمرار الكنيسة الأرثوذكسية وبقائها وجود أسر وسلالات من اليونان فى ليبيا، ومعروف أن كنيستهم مثل كنيسة القبط المصريين أرثوذكسية. ويدل على ذلك من بعض الوجوه أن نجد الواليين العثمانيين. محمد الساقزلى وعثمان الساقزلى يرخّصان لليونانيين فى زمنهما بإنشاء كنيسة أرثوذكسية قرب باب البحر وجعلاها تابعة لباترك الإسكندرية. وظلت الكنيسة الكاتوليكية- منذ أنشأها الرومان-حية فى طرابلس، وكانت تتبعها الجالية الرومانية القديمة، وظل يمدّها من تأسرهم سفن طرابلس الحربية فى البحر المتوسط من أوربا الشمالية والغربية وخاصة من إيطاليا وإسبانيا، وكانوا يعتنقون العقيدة الكاثوليكية المسيحية، ولا بد أن عنى الإسبان حين احتلوا طرابلس سنة ٩١٦ هـ‍/١٥١٠ وظلوا بها عشرين عاما بهذه الكنيسة، وبالمثل عنى بها فرسان مالطة حين تبعوا الإسبان فى احتلالها لنحو عشرين عاما أخرى، وقد كثر فى عهدهم نزول المالطيين بطرابلس، واستقرت بها من حينئذ بعثة الإرسالية الفرنشيسكانية للعناية بأمر المسيحيين وخاصة من كثر أسرهم فى البحر المتوسط من مسيحيى الغرب لعهد العثمانيين.

ويفتح عمرو بن العاص برقة سنة ٢١ هـ‍/٦٤١ م ويدور العام وتفتح طرابلس، ولم يكن العرب المسلمون غزاة فاتحين ينهبون البلاد التى يفتحونها ويسوسون أهلها بالقهر والبطش كما كان الرومان والواندال يصنعون، بل كانوا-قبل كل شئ-ناشرين للإسلام وتعاليمه السمحة، دون محاولة لإكراه المغاربة عليه، ودون أى محاولة لإساءة معاملتهم، ومع إنقاذهم مما كان يفرضه عليهم البيزنطيون والرومان من الظلم والاستعباد، ومع ما يدعو إليه الدين الحنيف من عبادة إله واحد رحيم وسعت رحمته كل شئ، وهو دين الفطرة الإنسانية التى فطر الله الناس عليها، ليس فيه شئ من تجسيد اليهودية ولا من تثليث المسيحية التى يعجز المغربى عن فهمها وتصورها. والمسلمون جميعا عرب ومغاربة سواسية فى الحقوق والواجبات ولا سيد ولا مسود.

وأخذ الحكام: عقبة بن نافع ومن جاءوا وراءه يصدرون عن هذه السياسة، وخاصة حسان بن النعمان (٧١ - ٨٥ هـ‍) الذى سوّى بين العرب والبربر فى الفيئ والخراج وعدّ أرضهم مفتوحة صلحا لا قهرا فلم يسلبها منهم. وشعورا منهم بهذه المساواة الكاملة بينهم وبين العرب فى جميع الحقوق انتظمت كتيبة منهم فى جيشه تبلغ اثنى عشر ألفا كما يقول ابن عذارى تجاهد فى سبيل الله نصرة لدينه. ويتسع انتشار الإسلام فى عهد الوالى بعده موسى بن نصير (٨٥ - ٩٧ هـ‍) من برقة إلى المحيط الأطلسى، إذ عمل-بكل جهده-على أن يعلم العرب البربر القرآن

<<  <  ج: ص:  >  >>