خشية لدغاته التى يصيب بها من حوله، وكأنما يرتسم فى مخيلته قول القائل:
عوى الذّئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير
ويقول أخيرا منفرا من مجالسة الناس إن الجلوس إليهم قد يؤدّى إلى عثرات اللسان وزلاته منك أو منهم. فأولى لك أن تبتعد عنهم وعن مجالسهم، وأن تعتزلهم معتصما ببيتك حتى لا تغلط وحتى لا تسمع غلطا من إنسان. وولى المستنصر الحكم بعد أبيه أبى زكريا، وأحسّ ابن أبى الدنيا بجفوة منه، وأنه ربما أسرّ فى نفسه شيئا منه، فكتب إليه يستعطفه:
أمولاى ما زلتم تنيلون عبدكم ... ضروبا من النّعماء جلّت عن المثل
ولم يبق إلا العفو وهو أجلّ ما ... ينال فأكمل لى به منحة الفضل
فما العيش فى الدنيا بغير رضاكم ... بصاف ولا طعم الحياة بمحلولى
وقد كدّر الإعراض صفو معيشتى ... فأنكرت أحوالى وأنكرنى أهلى
وابن أبى الدنيا يعترف للمستنصر الحفصى بأنه ما يزال يغمره بنعم لا مثيل لها ولا قرين، ويتوسل إليه أن يمنّ عليه بنعمة كبرى، هى نعمة العفو، حتى يكمل بها ما يمنحه من أفضال كثيرة، ويقول له إن الحياة بدون رضاكم تكدّرت مياهها، ولم يعد فى طعمها شئ من الحلاوة، ولقد بدّل إعراضكم عنى معيشتى، حتى أصبحت أنكر أحوالى، بل إن أهلى أنكرونى لما يعترينى من قلق وضيق لم يألفوه منى. ويستمر فى استعطافه منشدا.
ولى أمل يقضى بغفران زلّتى ... وبالعفو عن جرمى وبالصّفح عن فعلى
بقيت تزيد الملك عزّا وبهجة ... وتحمى رسوم الفضل والدين والعدل
ولا يخطئنّى منك عفو ورحمة ... فإنهما ما أخطأ أحدا قبلى
وصلّى إله العرش بدءا وعودة ... على المصطفى من خلقه خاتم الرّسل
وهو يسأل المستنصر ضارعا أن يغفر له زلّته ويعفو عن جرمه ويصفح عن فعله الذى اقترفه، ويأخذ فى الدعاء له أن يظل يزيد الملك عزا وأبّهة وبهجة ومسرة ويحمى رسوم الفضل والإحسان والدين الحنيف والعدل الذى لا تصلح حياة الرعية بدونه، وهو بهذا الدعاء وما يسوق فيه من صفاته فى رأيه يحاول أن يستدر عطفه ويسأله العفو، بل يسأله الرحمة وأن يرقّ له قلبه، ويقول له إنك دائما تسبغهما على الناس، فلا تحرمنى منهما، ويختم دعاءه بالصلاة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكأنما يذكره ليكون شفيعا عنده. وأسدل عليه المستنصر عفوه، وعاد إليه رضاه. ولعل فيما أنشدت له من أشعار ما يصور شاعرية غزيرة خصبة، وأنه كان يعرف كيف يصطفى ألفاظه ومعانيه فى لغة شعرية مصفاة، وبدون ريب كان معروفا بقدرته فى حوك الكلم،