للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طرابلس أو برقة دولة وأنشأت لها ديوان إنشاء لتألّق لها كتاب نابهون يدبّجون رسائل سياسية بديعة تلفت معاصريهم وتجعلهم يسجلونها لهم ولبثّ ذلك فيها نشاطا أدبيا جمّا فى النثر لا فى فن الرسائل وحده بل أيضا فى مختلف الفنون النثرية. ومع ذلك فقد بقيت من النثر الليبى قطع صغيرة وشظايا متفرقة من وصايا الفقهاء والزهاد ونصائحهم من مثل قول عبد الجبار السّرتى المذكور بين الفقهاء الزهاد والمتوفى سنة ٢٨١. «من قلّ كلامه قلّت آثامه-الصوم عن الكلام أفضل من الصوم عن الطعام-من زمّ (صان) لسانه كثّر فى الدنيا والآخرة أمانه». وسئل الزاهد عبد الله بن إسماعيل البرقى المار ذكره والمتوفى سنة ٣١٧ عن كثرة بكائه خشية وتقوى، فقال: «إنما جعلت عيناى للبكاء، ولسانى لتعظيم الله عزّ وجلّ وتحميده والصلاة على نبيه، وبدنى للتراب والبلى، وقلبى للخوف والرجاء، لم أخلق للعب ولا للهو، وإنما خلقت للعمل الصالح».

وكان الإباضية أكثر احتفاظا بأقوال أئمتهم، ونجد فى كتاب السير للشماخى خطبة لأبى الخطاب المعافرى الثائر بطرابلس سنة ١٤٠ وهى فصيحة، غير أنها شديدة البساطة ولا تعنى بجمال الصباغة، إذ ارتجلها فى مخاطبة الجيش الذى وجّهه لإخراج الصفرية من القيروان. ويذكر الشماخى نصّا من أقصر الرسائل المتبادلة بين متوعد لأهل نفوسة ومجيب له، إذ كتب الأول مهددا ومنذرا: {كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وهما عبارتان قرآنيتان، فأجابه محمد بن جنون الشروسى النفوسى من القرآن أيضا: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ.} ونرى الشاعر فتح بن نوح الإباضى الذى ترجمنا له بين شعراء الدولة الحفصية يعارض أبا العلاء المعرى فى كتابه الوعظى: «ملقى السبيل» الذى جعله على الحروف الأبجدية، وفيه يذكر سجعات نثرية قليلة ويتبعها ببيتين بنفس معناهما، وهو ما تقيد به فتح بن نوح فى معارضته إلى نهاية الحروف الهجائية بادئا ببيتين بقافية الهمزة، ودائما يذكر البيتين أولا ويتلوهما بالسجعات الوعظية، ومن سجعاته قوله:

«كلّ من غدا على ظهرها (١) وراح، مشغول البال ما استراح، حتى الأجنّة فى الأرحام، من بنى سام ويافث وحام، كلّ أهداف السهام، أرونى خلقا خلوا، وسليم الخاطر سفلا وعلوا، وهيهات لن ترى إلا نضوا (٢)، فإنا لله. . لم نر إلا عبد آمال، وعابد مال، وفاسد أعمال، ومتصنعا بأسمال (٣)، فسد العمران والبيد، وأشرفنا على ما ذكره لبيد» والسجعات تطير عن الفم بخفة لعذوبتها، وهو يعرف كيف يصطفى ألفاظه ومعانيه بحيث تلذ السامع وتمتع عقله، مضيفا إليها


(١) ظهرها: يريد ظهر الدنيا وسطحها الذى نعيش عليه.
(٢) نضوا: مجهدا مهزولا.
(٣) أسمال جمع سمل: ثوب خلق بال.

<<  <  ج: ص:  >  >>