بأمر الله على المنابر، وجاءه منه تقليد يعترف له فيه بالاستقلال، وعلم بذلك كله المستنصر الفاطمى فاستشار وزراءه ماذا يصنع، وتقدم منه وزيره اليازورى. ذاكرا له أن خير تأديب للمعز يردعه أن نطلق عليه الأعراب البدو من قبائل سليم وهلال وزغبة ورياح الذين نزلوا فى قفار الصعيد بين النيل وزروعه والبحر الأحمر، والذين يشكو الفلاحون المصريون من غاراتهم، فنكون قد تخلصنا منهم، وانتقمنا بهم من المعز وصنيعه. واستصوب المستنصر رأيه ومشورته، فاستدعى شيوخ هذه القبائل وعرض عليهم الهجرة إلى بلاد المغرب، ووعدهم أن يوليهم أعمالها، ومنح الشيوخ أعطيات كبيرة، ومنح كل أعرابى من عامتهم بعيرا ودينارا، وقال لهم المستنصر:«قد أعطيتكم المغرب وملك المعز بن بلكين الصنهاجى» وكانوا يعدون بمئات الألوف، فانصبوا على المغرب كسيل جارف، وبدءوا بأرض برقة وطرابلس فاستولوا عليها، وتقدموا فاحتلوا مدينة قابس، وحاول المعز بن باديس إيقاف هذا الطوفان المنهمر على بلاده، فالتقى بجموعهم فى موضع يسمى «حيدران» بين قابس وصفاقس ولكنه هزم وانسحب مع فلول جنده إلى القيروان. ورأى خطأ أن يستقدم بعض شيوخهم إلى القيروان ويزوجهم من كريماته، زلفى لهم وقربى، ونصحه ابنه تميم أن لا يستدعيهم، ولم يستمع لنصحيته، وجاءوه وانتهبت جماعاتهم القيروان، واضطر إلى الانسحاب والالتجاء إلى المهدية لحصانة قلاعها وأسوارها وكان قد ولّى تميما عليها، فاتخذها قاعدة لما بقى من ملكة منذ سنة ٤٤٩ هـ/١٠٥٧ م. ولم يقض هؤلاء الأعراب المهاجرون على دولة المعز بن باديس وسلطانه فحسب، بل لقد قضوا على كثير من الزروع والمنشئات وأحدثوا كثيرا من الاضطراب والفوضى، ووقفوا-إلى حين-النهضة الحضارية التى كان قد بثّها الأغالبة فى البلاد ونمتّها الدولة الصنهاجية، وليس ذلك أيضا فحسب، فقد تحولوا بإفريقية التونسية من نظام الوحدة السياسية إلى نظام التفرق والتشتت، فلم تعد لها دولة واحدة منظمة ترعى مصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، بل أصبحت دولا متفرقة أو قل وحدات صغرى من الدول، على نحو ما كان يعيش هؤلاء البدو فى قبائلهم من انقسامها إلى عشائر، وكما أن لكل عشيرة شيخها وحياتها المستقلة، كذلك أصبحت إفريقية التونسية إفريقيات وتحولت مدنها إقطاعيات وإمارات لنحو مائة عام ويلاحظ ذلك ابن خلدون قائلا:«لما تغلب العرب على إفريقية وانحلّ نظام الدولة الصنهاجية وارتحل المعز بن باديس من القيروان إلى المهدية انتزى الثوار فى البلاد» وكوّن كل ثائر فى بلد دولة أو إمارة صغرى وراثية.
وهكذا تأسس فى البلاد-على هدى نظام العشائر المتفرقة-نظام أمراء الطوائف، ولكل أمير بلدته أو إقطاعيته، وهو غالبا أمير أعرابى ورثت عنه أسرته إمارته، ونذكر من أهمهم: بنى الورد من لخم فى بنزرت، وبنى جامع من بنى هلال فى قابس، وبجانبهم أمراء بربريون مثل بنى الرند من مغراوة الزنانية بقفصة وبنى مليل من برغواطة بصفاقس، ومن أهم هذه الامارات الصغرى إمارة تونس وكانت لبنى خراسان. وبدون ريب أضعف هذا التفتت إفريقية التونسية، مما جعل