للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحصون، ولم يلبثوا أن جاءوا إلى ابن أبى سرح مستسلمين طالبين الصلح فصالحهم، ودانت إفريقية التونسية للدين الحنيف وجنوده.

ونجد عند الفاتحين دائما هذا الشعور بأنهم مجاهدون فى سبيل الله، فابن أبى سرح قبل منازلة جريجوريوس يخطب فى الجيش محرضا على الجهاد، إنه ليس فتحا ولا غزوا إنما هو جهاد فى سبيل إعلاء كلمة الدين الحنيف، ودائما نجد هذا الشعور ماثلا فى أذهان الفاتحين وكان أول من تعمق فى البلاد المغربية مجاهدا فى سبيل الله حتى المحيط الأطلسى عقبة بن نافع، وقد أدخل فيه قوائم فرسه ورفع وجهه إلى السماء مناجيا ربه بقوله: «اللهم إنّي أشهدك أنى وصلت براية الإسلام إلى آخر المعمورة حتى لا يعبد أحد سواك» فهو وجنوده لم يكونوا غزاة للمغرب الأقصى يجمعون منه الغنائم، إنما كانوا جنودا لله يريدون أن ينشروا دينه إلى أقاصى الأرض المعمورة. وتوفى عقبة وثار كسيلة، ودخل بجموعه القيروان، وفتك زهير بن قيس القائد بعد عقبة به وبجيشه حتى إذا دان له المغرب أبى أن يظل حاكما له، وعاد إلى المشرق قائلا: «إنّي ما قدمت إلا للجهاد، وأخاف أن تميل نفسى بى إلى الدنيا فأهلك». فقادة الجند الفاتحين للمغرب والجند أنفسهم لم يكونوا طلاب دنيا إنما كانوا مجاهدين يبتغون نشر الإسلام طالبين ما عند الله من ثواب الآخرة، وهم لذلك لا يبالون بالموت، فقد باعوا أنفسهم لله، صفقة كلّلت غزواتهم فى الفتوح الإسلامية بالانتصارات الحاسمة.

وتتضح خلال ذلك صفة ثانية لهم هى أنهم ناشرون للإسلام، فليس همهم من فتوحهم تملك الأرض وما عليها من طيبات الرزق، إنما همهم تملك القلوب للدين الحنيف، وهم لذلك يحاولون -كل بقدر إمكانه-تعريف البربر به وبتعاليمه، وأخذ يستجيب لهم البربر، لما وجدوا فى عقيدته من بساطة، إذ لا تعدو الإيمان بوحدانية الله. وليس فيها فكرة التثليث المعقدة عند النصارى، والله رحيم وسعت رحمته كل شئ، وهو عالم قادر شمل علمه-وشملت قدرته- كل ما فى الكون، والمسلمون عربا وبربرا سواسية فى جميع الحقوق والواجبات مع العدل المطلق الذى لا تصلح حياة الشعوب بدونه، ومع محو جميع الفروق الطبقية والاجتماعية بين أفراد الأمة، ومع تحرير الشعوب من كل عبودية. وقد أخذ هذا الجند الفاتح للمغرب المجاهد فى سبيل الله يحاول-بكل ما يستطيع-نشر هذا الدين، فهم يحفّظون البربر شيئا من القرآن، وهم يقفونهم على تعاليم الإسلام وهديه، وبذلك كانوا معلمين للبربر كما كانوا مجاهدين. ونجح تعليمهم سريعا، وأخذت جماعات كثيرة من البربر تعتنق الدين الحنيف لا اعتناقا ظاهريا، بل اعتناقا يتعمق منها القلوب والأفئدة، فإذا هى تخلص له، وإذا هى تحمل السلاح لنشره وحرب أعدائه وأعداء الله، فمن ذلك ما يقال فى ولاية أبى المهاجر الإفريقية (٥٥ - ٦١ هـ‍) من أن قبيلة أوربة اتحدت مع جيشه فى الاستيلاء على الساحل الشمالى للجزائر. ويصبح البربر جزءا

<<  <  ج: ص:  >  >>