للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما ذكرت البيت الأخير لأنه كان يتصنع أحيانا لقواعد النحو، فقد ذكر فيه الرفع والجزم والفتح والجمع الصحيح السالم والجمع المكسر، ولكن ذلك كله لم يفسد البيت عنده، وهو لا يكثر من مثل ذلك فى شعره، فقول من قال إنه كان يكثر من التورية فى شعره يريد مثل ذلك من التصنع لبعض مصطلحات العلوم وخاصة النحو وأنه يخرج بذلك عن الحد المحدود فيه مبالغة، إذ تتضح فى شعره قوة شاعريته وأنه يتدفق فيه رغم ما قد يتصنع له من المحسنات وخاصة الجناس، وله مدحة لم يخل منه بيتا من أبياتها وقد ذكر فى فاتحتها أن ذلك طلب منه.

والحق أنه يتميز بشاعرية خصبة، وديوانه الثانى أنشأه فى على بن الحسين وقد استولى على صولجان الحكم بعد أخيه الرشيد من سنة ١١٧٢ حتى سنة ١١٩٦ وكان سياسيا محنّكا وقرب الشاعر منه وعاش فى زمنه حتى توفى سنة ١١٨٣ هـ‍/١٧٦٩ م وأهداه أكثر من ثلاثين مدحة مكونا بذلك هذا الديوان الثانى الذى قلنا آنفا إنه سماه: «ديوان بهجة النفس والعين فى صفات الأمير على بن الحسين» وله يقول فى بعض مديحه:

مليك إذا الآمال منك توجّهت ... إليه فثق أنّ الإياب مغانم

بحلم وعدل خصّ، هذا لمن جنى ... وهذا لجرح النائبات مراهم

له وثبات فى وغى الحرب تنثنى ... -وتجبن عنهن-الكماة الضّراغم (١)

له عفّة لو أنها فى الورى سرت ... لما علقت بالعالمين مآثم

إذا انبجست مزن السماء وكفّه ... فذاك له كفّ وذلك ساجم

نعمنا به فى ظلّ عيش كأنما ... بنا من جنان الخلد حفّت تمائم (٢)

والقصيدة تتدفق برنات موسيقية بديعة، والألفاظ سلسة عذبة، والتقسيم فى البيت الثانى دقيق، فالعدل لمن جنى والحلم مرهم لجرح النائبات، وله وثبات فى وغى الحرب يتحاشاها ويحيد عنها الشجعان شجاعة ضارية، ويبالغ فى وصف عفته وأنها لو وزعت على العالمين ما كان فى الدنيا مآثم، ويقول إذا انفجر مزن السماء بالغيث وكفّه بالجود وتوقف المزن وكفّ فكفّه تظل هاطلة ولا تتوقف أبدا، ويذكر أنهم نعموا بالأمير على الثانى فى ظل عيش ناعم رافه، حتى لكأنما يعيشون معه فى جنان الخلد، وقد حفت معيشتهم بتمائم وتعويذات حتى لا تتبدل أبدا.

ولعل صوت على الغراب الصفاقسى اتضح لنا الآن، وهو صوت فيه غير قليل من جمال العبارة وحسن الصياغة وأحيانا مع المبالغة الشديدة.


(١) الكماة الضراغم: الشجعان الأسود.
(٢) تمائم: تعاويذ.

<<  <  ج: ص:  >  >>