برج شديد العلو، ويصور حنينا متأججا فى صدره إلى سكانه قائلا:
يا قصر طارق الذى طرقت ... أحشاى فيه بلابل الصّدر
والله ما قصّرت عن تلف ... لكننى قصّرت بالقسر
فسقاك منهلّ الحيا وسقى ... عصرا تقضّى فيك من عصر
أعطى عهود الله صفقة من ... أعطى العهود بجانب الحجر
لو أستطيع سبحت من طرب ... شوقا إليك سواد ذا البحر
وهو يهتف بقصر طارق المجاور لمدينته سوسة وما يثير فى صدره من شجون، ويقول إنه لم يقصّر إزاءه عن تلف وإنما قصّر قسرا وجبرا، ويدعو له ولأيامه الخوالى فيه بالسقيا، ويعاهده عهد حجاج بيت الله الحرام عند الحجر أو الحطيم بجانب الكعبة المقدسة أنه لو استطاع لسبح إليه سواد البحر المتلاطم بين صقلية سوسة. ويقول ابن رشيق تعليقا على هذه المقطوعة:«رقة الشوق ظاهرة على هذا الشعر ولطف الحضارة مع مياه تكاد تنبع من جانبه، فهو أندى من الزهر، غبّ القطر، وأحلى من الوصل بعد الهجر». ولما سمع جعفر بن ثقة الدولة هذه الأبيات ازداد به إعجابا وفيه ضنانة، فمنعه من السفر، فكتب ابن عبدون إلى أبيه ثقة الدولة يسأله فيما سأل فيه ولده، ويشكر لما ناله لديهما من الجود، ويتشوق إلى وطنه مجسدا شوقه فى قصر طارق قائلا:
يا قصر طارق همّى فيك مقصور ... شوقى طليق وخطوى عنك مأسور
إن نام جارك إنّي ساهر أبدا ... أبكى عليك وباكى البين معذور
عندى من الوجد ما لو فاض من كبدى ... إليك لاحترقت من حولك الدّور
لا همّ إنّ الجوى والوجد قد غلبا ... صبرى فكلّ اصطبارى فيهما زور
وهو يبث قصر طارق همه ويقول له إن شوقى لك حر طليق وخطوى إليك مقيد مأسور، وإن نام جارك نوما هنيئا فإنى أتجرع سهرا مريرا أبكى فيه عليك بكاء لا ينقطع. ويذكر أن فى كبده من لواعج الوجد ولهيبه ما لو فاض على ما حول القصر من الدور لاحترقت جميعا، ويفزع إلى ربه فإن ما يحمل من الجوى والوجد الملتاع قد غلبا صبره، ولم يعد يستطيع احتمالا لهما. ومضى فى القصيدة يمدح ثقة الدولة. ولم يجد عنده-كما لم يجد عند ابنه جعفر-مأموله، فاضطر إلى أن يخرج من صقلية خفية دون علمهما. وعاد إلى سوسة، وبها توفى حوالى سنة ٤٠٠ هـ/١٠١٠ م. وينشد له ابن رشيق مقطوعة بديعة فى ملعب سوسة الرومانى وفيها يتحدث عمن شادوه وملكهم وجيوشهم، ويقول إن الأرض ضمتهم جميعا: