للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قبائل زناتة ولواتة، ويغدو على المعز فى المناسبات المختلفة بمدائحه مع قرينه ورفيقه ابن رشيق، وكان المعز أديبا ويعقد ندوات يحضرانها ويحضرها بعض العلماء والأدباء، وأصبحا شاعرية المقربين، وجرّ ما ينظمانه فى مديحه إلى شئ من المنافسة بينهما، وجرّت المنافسة إلى شئ من الجفوة ثم الخصومة، وفزعا أحيانا إلى التهاجى وأخذ كل منهما يتعقب سقطات صاحبه، ويكتب فى ذلك رسائل وخاصة ابن رشيق. وكثيرا ما كانا يعودان إلى التصافى والمودة-وبينما هم فى ذلك إذا بالزحفة الهلالية تدمر القيروان فيتركها الشاعران مع المعز إلى المهدية، وسرعان ما ينزلان صقلية، ويظل بها ابن رشيق، أما ابن شرف فيرحل عنها مع أسرته إلى الأندلس، ويبدو أنه لقى مع أطفاله الصغار عنتا فى رحلته بحرا وبرّا، ويصورهم فى بعض شعره حماما ضلّ أوكاره وكلما أفزعهم شئ تزاحموا على ضلوعه، وحضنه لا يسعهم-إذ كانوا تسعة، فهذا يثبت عليه وذاك يزلق عنه، وهو حان مشفق عليهم. وينزل المرية فى الأندلس برحاب المعتصم بن صمادح ويمتدحه وينال عطاياه ويرسل ببعض قصائده إلى المعتضد أمير إشبيلية، وظل ينتقل بين أمراء المدن الأندلسية ببلنسية ومرسية وبطليوس وطليطلة والوزير ابن السقاء بقرطبة وينال عطاياهم إلى أن توفى سنة ٤٦٠ هـ‍/١٠٦٨ م. ولم يكن ابن شرف شاعرا فحسب، بل كان أيضا صاحب شعور رقيق رقة مفرطة، كما كان صاحب حس مرهف إلى أبعد حد، ويتضح ذلك فى وصفه لنكبة القيروان سنة ٤٤٩ هـ‍/١٠٥٨ م حين نزل بها الأعراب الهلاليون، وأخذوا يفتكون برجالها ويسبون نساءها ويهدمون دورها ويأتون على كل ما كان بها من مظاهر الحضارة والعمران، وله فيها وفيما نزل بها وداهمها من الخراب قصائد رائعة، يقول فى إحداها- وهى رائية-إنه لم يبق بها سراج مضئ سوى النجوم ولم يعد ينطق فيها خليط معاشر ولا عاد يرى فيها أحد من نسائها الجميلات فقد رحلن عنها وأصبحن يبتن على فرش الحصا يتغطين بأسمال بالية. ومن رائع تصويره لما حلّ بالقيروان من عدوان هؤلاء الأعراب الجفاة يوم غزوهم لها ويصور هذا اليوم الأسود قائلا:

بعد يوم كأنما حشر الخل‍ ... ق حفاة به عوارى رجلى

ولهم زحمة هنالك تحكى ... زحمة الحشر والصحائف تتلى

وعجيج وضجّة كضجيج ال‍ ... خلق يبكون والسرائر تبلى (١)

من أيامى وراءهن يتامى ... ملئوا حسرة وشجوا وثكلا (٢)


(١) فى القرآن فى وصف يوم القيامة أنه يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وتختبر.
(٢) أيامى: جمع أيّم: العزب من الرجال والنساء. ثكلا: فقدا للولد

<<  <  ج: ص:  >  >>