للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«قد تقاريت الصفات، وتوازنت الذوات، وتكاشفنا لما تعارفنا، ورفعت الخلوة حجاب الاحتجاب، وحطّت الخلطة لثام الاكتتام، وكنا مع طول الامتحان والاختبار ومدة الالتباس والاختيار، نقنع من ارتفاع القناع بلمحة، ومن اتقاد الزّناد بقدحة، ونبرز العبارات، من معارض الإشارات، وغوامض الاستعارات، فى طراز يدق عن مسرى السّحر، ويرقّ عن مجرى الخمر. .

ونختلس حركات البيان، فى سكنات الزمان، كما اختلس اللفظ المحبّ الكتوم، فهلمّ الآن إلى التصريح دون التعريض، والتصحيح دون التّمريض، وتعال نتلاطف، ونتكاشف، إذ قد لبسنا ثوب الأمان من الزمان».

والجناسات كثيرة فى الرسالة، وبالمثل الطباقات فى السطور الأخيرة، والاستعارات كثيرة كثرة مفرطة، وكأنه لم يكن يكثر من هذه المحسنات البديعية فى الشعر فحسب، كما قال ابن رشيق، بل كان أيضا يكثر منها فى النثر. ومن فصل فى الإشادة بكتابة كاتب يقول:

«إذا بدا القلم الأعلى براحته ... مطرّزا لرداء الفخر بالظّلم

رأيت ما اسودّ فى الأبصار أبيض فى ... بصائر لحظها للفهم غير عم

كروضة خطرت فى وشى زهرتها ... وافترّ نوّارها عن ثغر مبتسم

وتبرّجت فى حللها وحليّها، وابتهجت بوسميّها (١) ووليّها (١)، فاجتنبت ما اشتهيت من خزاماها وعرارها (٢)، واجتليت ما رأيت من خيريّها وبهارها (٣)، ولثمت خدود وردها وسوسانها (٤)، ورشفت ثغور أقاحها وحوذانها (٥)، والتقطت مالا تخلق (٦) الأيام بهجته، ولا تغيّر الأعوام جدّته، من نور (٧) يقطف بالأسماع والأبصار، وزهر يتناول بالخواطر والأفكار، وسرّحت الطّرف، فيما يفوت الوصف، من غرائب إبداع، وعجائب اختراع، لم تفترعها (٨) الأسماع».

والفصل ملئ بالاستعارات فسطور كتابة هذا الكاتب تطرّز بسوادها أو ظلمها رداء فخره، وما أشبه كتاباته بروضة تتمايل أغصانها بوشى زهرها، وتتلألأ البسمات على ثغور نوارها.

ويمضى فى وصف الروضة طويلا مصورا بأزهارها كلماته، وكأنما أكبّ على خدود وردها يلثمه


(١) الوسمى: أول المطر. الولى: المطر بعد المطر.
(٢) الخزامى والعرار: نباتات طيبة الرائحة.
(٣) الخيرى: زهر أصفر، والبهار: زهر أبيض وهما عطران.
(٤) السّوسن: زهر متعدد الألوان جذاب عطر.
(٥) أقاح جمع أقحوان: زهر عطر يشبه الثغر، والحوذان: نبات عشبى زهره طيب الرائحة.
(٦) تخلق: تبلى.
(٧) نور: زهر.
(٨) تفترعها: تتعود عليها.

<<  <  ج: ص:  >  >>