السكان. وكانوا شعبا ملاحيا متحضرا عريقا يحترف التجارة، ومضوا طويلا يتعرّفون على المواقع التى تلائمهم فى سواحل إفريقيا، وبمرور الزمن ودوراته المتعاقبة أقاموا مدينة قرطاجة بالقرب من مدينة تونس الحالية، ونزلت فيها منهم جالية فينيقية كبيرة، وأداهم البحث عن أماكن صالحة مماثلة فى شمالى الجزائر لتبادل السلع مع السكان إلى موقعين مهمين هما بونة (عنابة الحالية) وجيجل، وأضافوا إليهما-فيما بعد-مواقع أو مدنا جديدة هى إسكيكدة وبجاية وشرشال، واتخذوا من سكانها جميعا إدارات تدين لهم بالولاء، واختلطوا بهم وبثوا فيهم حضارتهم الفينيقية، ونقلوا إليهم-كما نقلوا إلى قرطاجة وإقليمها-من ديارهم الأصلية فى الشام أشجارا متنوعة من الفاكهة والنقل، وعلّموا كثيرين من أهل الجزائر لغتهم وما استحدثوه من حروف الكتابة الفينيقية التى نشروها فى العالم القديم.
ولما نشبت الحرب بين قرطاجة وروما وظلت طويلا من سنة ٢٦٤ حتى سنة ١٤٦ قبل الميلاد استطاعت روما أن تستميل سكان الجزائر وملكهم ماصينصا، حتى إذا علت كفّتهم فى الحرب وتغلبوا نهائيا على القرطاجيين فرضوا على الجزائر وماصينصا ملكها الولاء لهم، ورضخ إلى أن قضى نحبه، وخلفه ابن أخته يوغورطة وكان بطلا مغوارا، فأنف من التبعية للرومان ونازلهم مرارا، غير أن صهره ملك موريتانيا خانه وسلمه إليهم سنة ١٠٦ قبل الميلاد. وحكم بعده ملوك أو أمراء جزائريون كانوا يعدون موظفين رومانيين أكثر منهم حكاما جزائريين، ومن أهمهم يوبا الأول وابنه يوبا الثانى الذى نشأ فى روما حتى أصبح كأنه مواطن رومانى، وجعلوه ملكا على نوميديا أخذا من اسم كان يطلقه الجزائريون على القسم الشرقى من ديارهم أو لعله اشتق من لفظة نوماد الإغريقية وتعنى الرعاة الرحل، واتخذ شرشال عاصمة له، وضموا إليه-فيما بعد-موريتانيا الشرقية والغربية من وهران فى غربى الجزائر إلى أقصى بلاد المغرب على المحيط الأطلسى، ولم يلبث الرومان بعده أن ضمّوها إلى إمبراطوريتهم، وأخذوا يولون عليها حكاما رومانيين تابعين لروما أو لحاكم قرطاجة الكبير. وتوغلوا فى ديارها جنوبا، يدل على ذلك أكبر الدلالة ما أسسوه من مدن فى الداخل إلى مسافات بعيدة عن الساحل مثل تبسة الواقعة على بعد ١٥٠ ميلا جنوبى جيجل وبها أطلال لمبنى كان يقوم على أعمدة رخامية، ويقول الحسن الوزان: على تلك الأعمدة كتابات لاتينية، وكان اسمها الرومانى نيفسته، وفى شماليها الشرقى واحة بسكرة، واسمها الرومانى فيسيكرا وهى قرية جزائرية عتيقة. وجنوبى بسكرة نفطة وبها آثار وأطلال رومانية، وإلى الجنوب من جيجل فى الداخل قسنطينة وكان اسمها أيام الفينيقيين سرتا، وكانت بها أسرة سيفاكس التى أسست لها مملكة فى الجزائر، ومنها انحدر ماصينصا الذى وضع يده فى يد الرومان-كما أسلفنا-للقضاء على القرطاجيين، وخرّبت سرتا فى بعض ثورات الجزائريين على الرومان، وأعاد الرومان بناءها فى عهد الإمبراطور قسطنطين (٣٠٦ - ٣٣٧ م). وسموها قسطنطينة وسماها العرب قسنطينة،