سنة ٤٣٥ هـ/١٠٤٣ م ثارت بهم العامة ثورة دامية سفك فيها كثير من الدماء فى الحواضر والبوادى، ولم يتمكن المعز من إيقافها، فرأى نزولا على إرادة شعبه نبذ الدعوة العبيدية أو الفاطمية علانية وخلع طاعة خلفائها فى القاهرة، وأمر بأن يحمل جميع أهل المغرب على اتباع مذهب الإمام مالك سنة ٤٣٨ هـ/١٠٤٦ م وقيل بل فى السنة التالية، وأمر أن يخطب على المنابر باسم الخليفة العباسى القائم بأمر الله وجاءه منه تقليد يعترف له فيه باستقلاله. ومن حينئذ أصبح مذهب مالك هو المذهب الفقهى السنى الذى تتبعه البلدان المغربية وجماهيرها لا فى الإقليم التونسى وشرقى الجزائر فحسب، بل فى جميع بلدان الجزائر والمغرب الأقصى وأيضا فى طرابلس وبرقة وأخذ يدرس فى كل بلد مغربى وكثر فقهاؤه كثرة مفرطة.
ويقول ابن خلدون-فى المقدمة-إن أهل المغرب اختاروا مذهب مالك دون غيره من المذاهب السنية كالمذهب الحنفى والمذهب الشافعى لأنه مذهب أهل الحجاز الذين تجمعهم بهم البداوة، وفى رأينا أن هذا التعليل غير دقيق، لما سنرى عما قليل من شيوع مذهب الاعتزال فى الجزائر-ومثلها المغرب الأقصى-ومعروف أن البصرة هى التى وضعته دون الكوفة لأن عقلها-كما قلت فى كتاب المدارس النحوية-كان أدق وأعمق من عقل الكوفة لاتصالها بالثقافات الأجنبية وبالفكر اليونانى، ولذلك وضعت أصول الاعتزال. فالتعليل لاختيار أهل المغرب مذهب مالك بالبداوة تعليل لا يستقيم، وأولى من ذلك أن يعلّل إيثارهم لمذهب مالك من قديم، لأنهم كانوا يقصدون إلى المسجد الحرام للحج ويزورون المدينة دار الهجرة وكان مالك إمام المدينتين غير مدافع وإمام أهل الحجاز، فجلسوا إلى محاضراته فى المدينة دار الرسول صلّى الله عليه وسلم منذ أواسط القرن الثانى للهجرة وحملوا عنه موطّأه إلى القيروان وتدارسوه فيها كما تدارسوه على تلاميذه المصريين النابهين يتقدمهم عبد الرحمن بن القاسم، وكان قد فرّع على المذهب فروعا فى مدوّنة له حملها عنه أحد تلاميذه القيروانيين: سحنون، وأذاعها فى طلابه، وأصبحت فى البلاد المغربية: الجزائر وغير الجزائر أمّا للمذهب المالكى مثل كتاب إمامه الموطأ، وظل المغاربة بعد سحنون يلتمسون المذهب المالكى عند أئمته المصريين الذين خلفوا عليه ابن القاسم المتوفى سنة ١٩١ هـ/٨٠٦ م وخلفه على إمامة المذهب المالكى بالفسطاط أشهب بن عبد العزيز المتوفى سنة ٢٠٤ هـ/٨١٩ م وتولاها بعده عبد الله بن عبد الحكم المتوفى سنة ٢١٤ هـ/٨٢٩ م وإمام المالكية بعده فى الفسطاط أصبغ بن الفرج المتوفى سنة ٢٢٥ هـ/٨٣٩ م فكل هؤلاء الأئمة كان يرحل إليهم شباب المالكية المغاربة للتزود فى المذهب من حلقاتهم العلمية، كما كانوا يتزودون من تلامذة سحنون فى ديارهم المغربية، وتوالت طبقات فقهاء المالكية فى الجزائر إلى اليوم.
وقد أخذ المذهب الحنفى وفقهاؤه ينشطون فى العهد العثمانى إذ كانت الدولة العثمانية