للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليه. ويرى بعض عظماء أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، كما يرى مالك خازن النار ويحاوره، ويرى الرسول مقبلا فى موكب عظيم من المقام المحمود يؤم مورد الحوض الذى يسقى منه أمته. يقول (١):

«لما انتهى إلى شاطئ المشرعة (٢) تقدمت إليه الصوفية من كل مكان وفى أيديهم الأمشاط وأخلّة الأسنان، وقدموها بين يديه، فقال: صلّى الله عليه، من هؤلاء؟ فقيل له: قوم من أمتك غلب العجز والكسل على طباعهم، فتركوا المعايش وانقطعوا إلى المساجد، يأكلون وينامون فقال: فبماذا كانوا ينفعون الناس ويعينون بنى آدم؟ فقيل له: والله ولا بشئ البتة، ولا كانوا إلا كمثل شجر (٣) الخروع فى البستان، يشرب الماء ويضيق المكان».

وهو نقد مغربى مبكر للصوفية وما يحملون من أمشاط لشعرهم وخلال لأسنانهم ولا عمل لهم ينفعون به الأمة، إلا ما كان من البطالة والكسل والتمويه على العامة بما يؤدون لهم من أطعمة وأكسية متظاهرين بالعبادة والنسك فى المساجد. وعلى نحو هذا النقد للصوفية ينقد كثيرين من معاصريه علماء وغير علماء كما ينقد كثيرين من القدماء ومواقفهم من على بن أبى طالب فى حرب صفين ومن الحسين فى مقتله بكربلاء، بينما نراه ينوّه بالأيوبيين: أسد الدين شيركوه وأخيه أيوب وابنه صلاح الدين، ولعله كان يحاول بذلك أن يتقرب من دولتهم. وربما كانت مقامته البغدادية الجادة أروع من هذا المنام الهزلى، وهو يستهلها بقوله (٤):

«لما تعذرت مآربى، واضطربت مغاربى، ألقيت حبلى على غاربى (٥)، وجعلت مذهّبات الشعر بضاعتى، ومن أخلاف الأدب وضاعتى، فما مررت بأمير إلا حللت ساحته، واستمطرت راحته، ولا وزير إلا قرعت بابه، وطلبت ثوابه، ولا بقاض إلا أخذت سيبه (٦)، وأفرغت جيبه، فتقلبت بى الأعصار، وتقاذفتنى الأمصار، حتى قربت من العراق وسئمت من الفراق، فقصدت مدينة السلام (٧)، لأقضى حجّة الإسلام، فدخلتها بعد مقاساة الضرّ، ومكابدة العيش المر. . وتاقت نفسى إلى محادثة العقلاء، واشتاقت إلى معاشرة الفضلاء، فدلّنى بعض السادة الموالى، إلى دكّان الشيخ أبى المعالى، فقال هو بستان الأدب، وديوان العرب، يرجع إلى رأى مصيب، ويضرب فى كل علم بنصيب، فقصدت قصده، حتى جلست عنده، فحين نظر إلى، ورأى أثر السفر علىّ، بدأنى بالسلام، وبسطنى بالكلام، وقال: من أى البلاد خرجت وعن أيها درجت! فقلت: من المغرب الأقصى. . وقال كيف معرفتك بدهرك؟


(١) انظر منامات الوهرانى ومقاماته ورسائله ٤٩.
(٢) المشرعة: المورد.
(٣) شجر ورقه كورق التين ثمره مر.
(٤) مقامات الوهرانى ومقاماته ص ١.
(٥) الغارب: الكاهل: ألقى حبله على غاربه: ذهب حيث شاء.
(٦) سيبه: عطاءه.
(٧) مدينة السلام: بغداد.

<<  <  ج: ص:  >  >>