ابن القاسم-فكان الطلاب يرحلون إليه ويتلمذون عليه كما رحلوا وتتلمذوا على أئمة الفقه المالكى بعده فى مصر. فكان ذلك سبب ازدهار المذهب المالكى فى إفريقية التونسية، وكان كتاب الموطأ قد حمل إليها فكان يدرس فيها ويدرس معه كتاب فى المذهب لتلميذه عبد الرحمن بن القاسم الذى فرّع فيه فروعا كثيرة. سماه المدونة وحملها عنه سحنون إلى تلاميذه فى موطنه ونسبت إليه باسم مدوّنة سحنون. وأخذ التلامذة من تونس إلى المحيط الأطلسى يقدمون إلى القيروان للتلمذة على سحنون وأضرابه من حملة الفقه المالكى بعد وفاته سنة ٢٤٠ هـ/٨٥٤ م. وكانوا يعودون إلى مواطنهم فى المغرب الأقصى فيدرسون للطلاب المذهب المالكى ويشيعونه بين الناس فى بلدانهم، وأظن ظنا أن إدريس منشئ الدولة الإدريسية ومن خلفه من أبنائه وأحفاده كانوا يدفعون رعاياهم فى المغرب الأقصى بفاس وغير فاس إلى التفقه بمذهب مالك دون غيره من المذاهب لموقفه المعروف مع محمد النفس الزكية حين أعلن بمكة الثورة على المنصور، إذ أفتى الناس بالتحلل من بيعة الخليفة المنصور ومبايعة النفس الزكية محمد بن عبد الله سليل الحسن بن على بن أبى طالب سنة ١٤٥ هـ/٧٦٢ م وفى السنة التالية بعد القضاء على ثورة النفس الزكية استدعى جعفر بن سليمان والى المدينة مالكا وجرّده من ثيابه، وضربه بالسياط عقابا على فتواه. وفرّ عقب إخفاق ثورة النفس الزكية عمه إدريس إلى المغرب الأقصى واستطاع تأسيس الدولة الإدريسية، فكان طبيعيا أن يرعى لمالك الفقيه الكبير فتواه لابن أخيه، وأن يدفع الناس والعلماء والطلاب إلى التفقه بمذهبه، مما جعل المذهب المالكى يشيع هناك بقوة منذ القرن الثالث الهجرى.
ونحن لا نصل إلى القرن الرابع الهجرى حتى يصبح للمغرب الأقصى أعلامه فى الفقه المالكى الذى يدرسونه فى المدن وفى القبائل المختلفة، ومنهم أبو هارون البصرى الذى أدخل كتاب ابن المواز الفقيه المالكى المصرى إلى المغرب الأقصى لأول مرة وأيوب بن محمد فقيه المصامدة وأبى القاسم بن محرز فقيه الملثمين وعثمان بن مالك فقيه فاس، وله تعليق على مدونة سحنون، ودراس بن إسماعيل الفاسى تلميذ أبى بكر بن اللباد شيخ فقهاء المالكية بالقيروان فى النصف الأول من القرن الرابع الهجرى، وله رحلة إلى المشرق حمل فيها من الإسكندرية كتاب ابن المواز، وعبد الرحيم الكتامى تلميذ فقيه القيروان فى النصف الثانى من القرن الرابع: ابن أبى زيد وأخذ عنه كتابيه: النوادر والمختصر. وينشط المغرب الأقصى فى دارسة الفقه المالكى لعهد المرابطين، وكانوا يعينون فقيها مالكيا مع كل وال لملاءمة الأحكام فى عهده للشرع. وسنعود للحديث عن نشاط الفقه المالكى لهذا العهد فى الفصل المقبل، ويضعف هذا النشاط فى عصر الموحدين لعنايتهم بنشر المذهب الظاهرى، وسنخص هذه العناية بحديث فى غير هذا الموضع، ويعود إلى المذهب المالكى نشاطه وازدهاره فى العصور التالية حتى العصر الحديث.