للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على زروع بلدهم وثمارها، بينما كان اليهود يقومون على الحرف والصناعات، وخاصة صناعة الأسلحة والأقمشة. ويظهر أن النصرانية كانت معروفة هناك ففى السيرة أن شخصا كان بها يسمى عبد عمرو بن صيفى خرج على الرسول وحاربه مع قريش، وكان قد ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح (١).

وتدل دلائل مختلفة على أن حياة الأوس والخزرج لم تكن تختلف فى شئ عن حياة البدو فى الخيام، مع أنهم سكنوا آطام المدينة. ومن أكبر الدلالة على ذلك أنهم كانوا يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية، وأكبر الظن أن اليهود هم الذين عملوا على الوقيعة ونشر العداوة والبغضاء بينهم، حتى يشغلوهم عنهم، وكانوا يصنعون لهم الأسلحة التى استخدموها فى تلك الحروب الدامية. وفى كتب التاريخ والأدب أيام ومواقع لهم كثيرة مثل يوم سمير ويوم حاطب ويوم السرارة ويوم فارع ويوم الربيع ويوم البقيع ويوم معبّس ومضرّس ويوم الفجار ويوم بعاث.

وتحرجت الظروف تحرجا شديدا بين الأوس والخزرج حتى غدا كأنه من المستحيل أن يكفوا عن هذه الأيام والحروب وكأنما تعاهدوا على الفناء، لولا أن نزل بينهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأصبحوا بنعمة الله إخوانا إذ دخلوا فى دينه الحنيف أفواجا، وتحولوا إليه يشدون أزره وينصرونه حتى أضاءت بتعاليمه الجزيرة العربية من جميع أطرافها ومسالكها ودروبها.

وكان لليهود فى شمالى المدينة قرى خاصة بهم أشهرها خيبر وفدك وتيماء، وما زالوا بها حتى أخرجهم عمر من الجزيرة فأصبحت عربية خالصة. والمظنون أن هؤلاء اليهود مثلهم مثل يهود المدينة نزلوا فى هذه القرى حين اضطهدهم الرومان منذ أوائل القرن الثانى الميلادى، واتخذوا العربية لسانا لهم، وعبروا بها عن عواطفهم، فجرى الشعر على ألسنة نفر منهم، لعل أشهرهم السموءل صاحب حصن الأبلق بتيماء وكان معاصرا لامرئ القيس، ويقال إن أمه كانت عربية من غسان، ولعل ذلك العرق فيه هو الذى أنطقه بالشعر العربى، وكان أخوه شعية شاعرا مثله.

ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعا، ولذلك لم يؤثروا فى حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنهم.


(١) السيرة النبوية (طبعة الحلى) ٢/ ٢٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>