يا صاحب القبر الذى أعلامه ... درست ولكن حبّه لم يدرس
ما اليأس منك على التصبر حاملى ... أيأستنى فكأننى لم أيأس
لما ذهبت بكل حسن أصبحت ... نفسى تعانى شجو كلّ الأنفس
يا صبح أيامى ليال كلّها ... لا تنجلى عن صبحك المتنفّس
وهو يخاطب صاحبته قائلا إن ما حول قبرك من معالم درست وامّحت ولم يدرس حبك ولم ينمح فى قلبى، وإن اليأس منك ومن لقائك لا يحملنى على التصبر، وقد أيأستنى من لقائك وكأننى لم أيأس، ولما ذهبت بكل حسن وجمال أصبحت كأننى أحمل أحزان كل المحبين الذين غادرتهم كل محبوباتهم الحسناوات، ويقول لها إن أيامى كلها بعدك أصبحت كأنها ليل متصل لا يتنفّس ولا يشرق فيه صباح. ويخاطب قبرها منشدا:
يا قبر صبح حلّ في ... ك لمهجتى أسنى الأمانى
وغدوت بعد عيانها ... أشهى البقاع إلى العيان
أخشى المنية إنها ... تقصى مكانك عن مكانى
كم بين مقبور بفا ... س وقابر بالقيروان
وهو يذكر لقبر صبح إنه حلّ فيه أجمل الأمانى-كانت-لمهجته وروحه، ولقد أصبحت بعد عيانها أشهى البقاع إلى العيان والمشاهدة، وإنّي لأخشى الموت أن يباعد بين مكانك ومكانى، ويقول إنها توفيت بفاس وكان فى القيروان مع أبى الحسن المرينى فى رحلته، ومن رثائه لصاحبته قوله:
يا غائبا فى الضمير ما برحا ... دانى محلّ الهوى إذا نزحا
لم تضمر الصّبر عنك جارحة ... ولا فؤادى لسلوة جنحا
مستعبر المزن فيك أدمعه ... يظلّ يبكيك كلما سفحا
ولا أرى البرق عاد مبتسما ... بعدك بل زند شوقه قدحا
وما تغنّى الحمام من طرب ... بل يعلن النّوح كلّما صدحا
وهو يقول لصاحبته إذا غبت ونزحت لا تزالين دانية منى ولا يزال محل هواك قريبا من نفسى، ومعاذ الله أن تضمر الصبر عنك جارحة أو أن يجنح فؤادى إلى سلوان أو عزاء. وإنه ليطلب إلى المزن أن تسبل حتى تفيض أدمعه ويظل يبكيك غيثها، وإنه ليرى البرق فيه كأنه زند شوقه يقدح نارا وشرارا، ويقول إن الحمام لا يتغنى من طرب أو فرح وإنما ينوح كلما صدح نوحا متصلا. وظل مأتم صاحبته صبح قائما وهو ينوح فيه ويندبها حتى أنفاسه الأخيرة.