للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى تيرس ومراعيها وريفها إلا تغنى به. وتغنى طويلا بمسيرة الظعن، وبين الظاعنات محبوبته، كما تغنى طويلا بحيوانات الصحراء من إبل وخيل وبقر وظباء ونعام وأتن وحشية مع حمارها، فالحياة الصحراوية الجاهلية بحذافيرها يتمثلها محمد بن الطلبة وغيره من شعراء موريتانيا، وكأنما أراد أن يثبت مدى صحراويته فى شعره فاختار قصيدتين للشماخ ولحميد بن ثور الصحابيين تكتظان بالغريب وبوصف الحياة الصحراوية وحيواناتها وظعنها وعارضهما معارضة رائعة. وبالمثل عارض قصيدة للأعشى، ولن نسوق أمثلة لغزله من هذه القصائد لكثرة الغريب فيها، إنما نسوق له أمثلة من غزلياته الأخرى منحّين ما ينظمه ممتلئا بالألفاظ الصحراوية الآبدة، فمن ذلك قوله مخاطبا محبوبته التى يسميها أم المؤمنين:

كيف التجلّد لا تجلّد بعد ما ... شطّت بأمّ المؤمنين نواها (١)

عوجى قليلا ريثما أشكو الذى ... قد شفّ نفسى منكم وبراها (٢)

ما كان ضرّك لو رددت تحيّة ... فيها لنفسى-لو رددت-شفاها

واها لما أبدى لنا يوم النّوى ... منها الوداع وقلّ منّا واها (٣)

يا ليت شعرى والفراق موكّل ... بالعاشقين متى يكون لقاها

وهو يقول كيف التجلّد للأسى والصبر بعد ما أوغلت بها النّوى وبعد الدار، ويتمنى لو كانت وقفت له قليلا ليشكو لها شفوف نفسه وضنا جسمه بحبها، ويقول إنه حيّاها ولم تحيّه ولو حيته لشفت نفسه مما يضطرم فيها من الألم، ويتفجع لوداعها يوم الفراق ويتحسر متمنيا لقاءها بعد هذا الفراق. ويقول:

لا القلب عن ذكر أمّ المؤمنين سلا ... ولا أرى عاذلاتى تترك العذلا (٤)

بل لا أرى لوم من يلحو ومن عذلا ... إلا يزيد علىّ الهمّ والخبلا

ولا أرانى أرى رسما ولا طللا ... إلا وساءلت عنها الرسم والطّللا

هى التى أنا لا أبغى بها بدلا ... ونيلى الوصل منها نيلى الأملا

فهو لن يسلو صاحبته مهما لامته اللائمات، بل إن لوم من يلومه إنما يزيده هما وجنونا بحبها، ويقول إنه لا يرى رسما ولا طللا إلا سأله عنها كأنما تملأ عليه جميع البقاع، ويؤكد أنه لا يبغى بها بدلا لها إذ نيل وصلها نيل أمله فى دنياه. ويقول فيها:


(١) التجلد: الاحتمال فى صبر. النوى: الفراق والبعد.
(٢) عوجى: توقفى وميلى. براها: نحلها.
(٣) واها: كلمة تقال فى التفجع وفى العجب.
(٤) العذل: اللوم، ومنه العاذلات.

<<  <  ج: ص:  >  >>