للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من شعراء تلك القبائل يرد عليه بقصيدة على وزن قصيدته ورويّها، وكأنه يريد أن يظهر تفوقه عليه من ناحية المعانى ومن ناحية الفن نفسه، ويتجمّع الناس من حواليهما يصفّقون ويهتفون ويصيحون (١). وبذلك تحولت النقائض من غاية الهجاء الخالص إلى غاية جديدة هى سدّ حاجة الجماعة الحديثة فى البصرة إلى ضرب من ضروب الملاهى.

وتدخلت فى صنع النقائض بجانب هذه العوامل الاجتماعية عوامل عقلية مردّها إلى نمو العقل العربى ومرانه الواسع على الحوار والجدل والمناظرة فى النّحل السياسية والعقيدية وفى الفقه وشئون التشريع. وعلى ضوء من ذلك كله أخذ شعراء النقائض يتناظرون فى حقائق القبائل ومفاخرها ومثالبها، وكل منهم يدرس موضوعه دراسة دقيقة ويبحث فى أدلته ليوثّقها وفى أدلة خصمه لينقضها دليلا دليلا، وكأننا أصبحنا بإزاء مناظرات شعرية، وهى مناظرات كانت تتخذ سوق المربد مسرحا لها، فالشعراء يذهبون هناك، ويذهب إليهم الناس ويتحلّقون من حولهم، ليروا من تكون له الغلبة على زميله أو زملائه.

وأهمّ من وقفوا حياتهم على تنمية تلك النقائض القبلية مستلهمين فيها ظروف العصر وأحداثه السياسية جرير والفرزدق التميميان (٢). وكان أولهما من عشيرة كليب اليربوعية، والثانى من عشيرة مجاشع الدارمية، وقد ظلا يتناظران نحو خمسة وأربعين عاما فى عشيرتيهما من جهة وفى قيس وتميم من جهة ثانية، فإن ظروفا كثيرة جعلت جريرا يقف فى صفوف قيس محاميا عنها ضد خصومها، وذلك أن عشيرته اليربوعية أسرعت بالبيعة لابن الزبير، فاتفق هوى عشيرته مع هوى قيس، وتصادف أن كان قد قتل مجاشعىّ الزبير بن العوام حين لجأ بعد موقعة الجمل إلى مجاشع، وأيضا تصادف أن لجأت النّوار زوج الفرزدق حين غاضبته إلى ابن الزبير، فأعانها عليه، مما جعل الفرزدق يهجوه (٣).


(١) أغانى (دار الكتب) ١٠/ ١٥٢ وطبعة ساسى ١٩/ ١٠٣.
(٢) شرح أبو عبيدة نقائض الشاعرين، وحقق الشرح ونشره بيقن سنة ١٩٠٥ فى ثلاثة أجزاء ضخمة. ونشر الشرح نشرة ناقصة بتحقيق الصاوى سنة ١٩٣٥.
(٣) أغانى (دار الكتب) ٩/ ٣٢٤ وما بعدها

<<  <  ج: ص:  >  >>