والوافر، كما عدلوا إلى مجزوءات الأوزان الطويلة من مثل الكامل والبسيط والرجز، بل لقد مالوا إلى تجزئة الأوزان الخفيفة من مثل الخفيف والرمل والمتقارب، حتى يعطوا للمغنين والمغنيات الفرصة كاملة كى يلائموا بين أشعارهم وألحانهم وأنغامهم التى يوقّعونها على آلاتهم الوترية وطبولهم الموسيقية، فيطيلوا أو يقصروا ويجهروا فى مواضع الجهر ويهمسوا فى مواضع الهمس. وليس ذلك فقط ما أثّر به الغناء الأموى فى الغزل الذى عاصره، فقد دفع الشعراء إلى اصطناع الألفاظ العذبة السهلة، حتى يرضوا أذواق المستمعين فى هذا المجتمع المتحضر الذى يخاطبونه. وكانت هذه أول دفعة قوية نحو تصفية الشعر العربى من ألفاظه البدوية الجافية.
ولم يختلف هذا الغزل الجديد عن الغزل الجاهلى القديم فى صورته الموسيقية والأسلوبية فحسب، فقد أخذ يختلف أيضا فى صورته المعنوية، إذ لم يعد تشبيبا بالديار وبكاء على الأطلال، كما كان الجاهليون يصنعون فى جمهور غزلهم، بل أصبح غالبا تصويرا لأحاسيس الحب التى سكبها المجتمع الجديد فى نفوس الشعراء. وهو مجتمع ظفرت فيه المرأة العربية بغير قليل من الحرية، فكانت تلقى الرجال وتحادثهم، وكانت-شأن المرأة فى كل عصر-تعجب بمن يصف جمالها وتعلق القلوب بها. وينبغى أن نفرق بين الحرية والإباحية، ففى الأولى يبقى للمرأة وقارها وعفافها، وفى الثانية تصبح ممتهنة تقبل على اللهو والعبث والمجون، لا يردّها وقار ولا حشمة ولا خلق.
وحقّا برزت المرأة فى مكة والمدينة للشباب فى هذا العصر، ولكنها ظلت تحتفظ بحجاب من الوقار، كانت فيه لا تضيق بما يقال فيها من غزل، بل لعلها كانت تحبّ فيه أن يحظى بغير قليل من الحرارة. وبذلك نفهم إقبال الثّريّا بنت على بن عبد الله الأموية فى مكة وسكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة فى المدينة على هذا الغزل، بل لقد مرّ بنا أن ابن قيس الرقيات كان يتغنى بنساء ممدوحه مصعب بن الزبير، وتغنّى بأم البنين فى مدائحه لعبد الملك، ولم يجد أحدهما فى ذلك حرجا.
وعلى هذا النحو كان الناس رجالا ونساء فى مكة والمدينة يقبلون على شعر