للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا مضينا إلى خراسان وسجستان وجدنا كثيرين يتورطون فيها، وكأنما كان تغلغلهم فى الشرق دافعا لهم إلى الإمعان فى المجون والتحرر من قوانين الدين، أو لعلهم كانوا يريدون أن يزيحوا بها عن كواهلهم ما كانوا يحسون به من آلام الغربة وعناء الحروب. ويروى البلاذرى أن ثلاثة نفر من أهل الكوفة كانوا فى جيش الحجاج الذى وجهه إلى الديلم، وكانوا يتنادمون، فمات أحدهم، فدفنه صاحباه، ومضيا يشربان عند قبره، فإذا بلغته الكأس أراقاها على القبر، وبكيا. ومات الثانى فدفنه صاحبه، وظل عند قبرهما يشرب ويبكى إلى أن لحق بهما، وقبورهم هناك تعرف بقبور الندماء (١). ومن الشعراء الذين اشتهروا بمعاقرتها والنظم فيها هناك الشّمردل (٢) بن شريك، وكان قد خرج للغزو فى تلك الديار مع ثلاثة من إخوته. فماتوا جميعا ورثاهم رثاء حارّا، وكأنه كان يغرق فيها حزنه. ومنهم أبو جلدة اليشكرى الذى سبق أن عرضنا له فى شعراء ثورة ابن الأشعث، وكان يدمنها إدمانا ثم تاب عنها، فقال (٣):

سأركض فى التقوى وفى العلم بعد ما ... ركضت إلى أمر الغوىّ المشهّر

ونحن لا نصل إلى أواخر هذا العصر حتى تشتد موجة المجون فى خراسان والعراق جميعا، وخاصة الكوفة، حيث تنشأ جماعة كبيرة من المجان على رأسها مطيع وحماد الراوية وحماد عجرد ويحيى بن زياد، وهم جميعا ممن عاشوا فى الدولتين الأموية والعباسية، وهم من هذه الناحية أكثر صلة بالعصر العباسى منهم بالعصر الأموى، ولذلك رأينا أن نؤخر الحديث عنهم. على أنهم يلفتوننا فى قوة إلى تهالك الناس على المجون فى الكوفة فى أواخر العصر، تهالكا تحرروا فيه من كل خلق وعرف ودين. ولعل مما هيأ لهذا الانحلال الخلقى على الأقل عند بعض الأفراد فى هذا العصر أن بعض خلفاء بنى أمية المتأخرين جعلوا يقبلون على اللهو، يتقدمهم فى ذلك يزيد بن عبد الملك، وابنه الوليد الذى أكبّ على الخمر والمجون إكبابا، كما اكبّ على نظم الخمريات وهو وأبو الهندى شاعر سجستان أهم من عاشوا هذه الحياه الاجنة.


(١) فتوح البلدان ص ٣٢٠.
(٢) انظر ترجمته فى أغانى (دار الكتب) ١٣/ ٣٥١ وما بعدها والشعر والشعراء ٢/ ٦٨٥
(٣) أغانى (دار الكتب) ١١/ ٢٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>