للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثرية، بل كانت تعيش على الكفاف، بل كان كثير منها يعيش فى البؤس والضنك والضيق وقلوبه تتقطع حسرات على ما تحظى به الطبقة المتزفة من أسباب النعيم. وكانوا ساخطين سخطا شديدا على كل ما يرونه حولهم من جموح الأهواء والإمعان فى المجون، وهو سخط اتسع فى أيام الفتنة بين الأمين والمأمون حين حوصرت بغداد واستطال شر المجّان والعهّار، وظلت من ذلك بقية فى سنتى ٢٠١ و ٢٠٢ فإذا جماعات كبيرة تتطوّع للنكير عليهم والأخذ على أيديهم (١).

وإذا كانت حانات الكرخ ودور النخاسة والمقينين به اكتظت بالجوارى والإماء والقيان والمغنين، فإن مساجد بغداد كانت عامرة بالعبّاد والنسّاك وأهل التقوى والصلاح، وكان فى كل ركن منها حلقة لواعظ يذكّر بالله واليوم الآخر وما ينتظر الصالحين من النعيم المقيم والعاصين من العذاب والجحيم. وكان من الوعّاظ من يفتحم قصر الخلافة ليعظ الخلفاء على نحو ما هو معروف عن عمرو بن عبيد فى وعظه للمنصور (٢) وصالح بن عبد الجليل فى وعظه للمهدى (٣) وابن السماك فى وعظه لهرون الرشيد (٤) ومن كلامه: «الدنيا كلها قليل والذى بقى منها فى جنب الماضى قليل، والذى لك من الباقى قليل، ولم يبق من قليك إلا القليل» (٥).

وكان الوعظ فى هذا العصر يلتحم بالقصص للعظة والعبرة، وهو التحام قديم منذ تميم الدارى وكعب الأحبار فى عصر الخلفاء الراشدين ومنذ قصّاص الفتوح من أمثال أبى سفيان بن حرب. وقد ازدهر هذا الوعظ القصصى فى عصر بنى أمية عند الحسن البصرى وأضرابه، وتكامل ازدهاره فى هذا العصر. وينبغى أن نميز بين هذا الضرب من القصص الدينى وقصص آخر كان الناس يجتمعون حول أصحابه فى طرقات بغداد وغيرها من أمصار العراق ليسلوهم بالنوادر والحكايات القصيرة، ومن أجل ذلك قرنوا بأصحاب المساخر من مثل القرّادين (٦). وقد كثر قصاص الوعظ الذين كانوا يدفعون الناس إلى العبادة ورفض المتاع الدنيوى وسلوك السبيل الواضحة إلى نعيم الآخرة كثرة مفرطة (٧).


(١) طبرى ٧/ ١٣٦ وما بعدها.
(٢) انظر عيون الاخبار ٢/ ٣٣٧ والعقد الفريد ٣/ ١٦٤.
(٣) عيون الأخبار ٢/ ٣٣٣ والعقد الفريد ٣/ ١٥٨.
(٤) طبرى ٦/ ٥٣٨ والعقد الفريد ٣/ ١٦٤.
(٥) النجوم الزاهرة ٢/ ١١٢.
(٦) انظر ما كتبه الجاحظ عن أبى كعب الصوفى فى كتابه الحيوان ٣/ ٢٤ وراجع التاج ص ٤٠.
(٧) القصاص لابن الجوزى ص ١٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>