للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وراءهم من الشعراء كان جمهورهم من أبناء العامة، وكذلك كان العلماء فى جميع فروع العلم، بل كان منهم من يجمع بين علمه وحرفته التى نشأ فيها مثل أبى أحمد التّمّار وشعيب القلاّل الذى كان يصنع فعلا القلال، وهما من المتكلمين.

وأبعد من ذلك وأعمق أن بين أيدينا من النصوص ما يدل على أن أكثر العامة كانوا يصيبون حظوظا مختلفة من الثقافة، إذ لم يكن بينهم وبينها أى حجاب ولا أى حاجز، بل لقد كانوا يروحون ويغدون عليها فى المساجد ودكاكين الوراقين، فنهل كلّ ما نزع إليه من ينابيع المعرفة، ومن خير ما يصوّر ذلك أن نرى الجاحظ يقول: «وسألت بعض العطارين من أصحابنا المعتزلة (١)» وكأن العطارين كانوا أقساما منهم من يتبع المعتزلة ومنهم من يتبع غيرهم ولا بد أن كان مثلهم بقية التجار وأصحاب الحرف، فهم يناصرون هذا المذهب أو ذاك، وهم يناصرون هذا الأستاذ أو ذاك ولكل أستاذ أتباعه لا من أوساط المثقفين فحسب، بل من العامة أيضا، وبذلك نفهم قول صاحب النجوم الزاهرة عن النظام ونشاطه فى الدعوة لآرائه الاعتزالية ببغداد إذ يقول: «وفى سنة ٢٢٠ ظهر إبراهيم النظام وقرر مذهب الفلاسفة وتكلم فى القدر، فتبعه خلق (٢)». ونرى الجاحظ فى رسالته «الرد على النصارى» ينكر على العامة تعرضهم لمناقشة الملحدين فى آرائهم الفاسدة لعدم إحاطتهم الدقيقة بتلك الآراء وما ينقضها نقضا من الأدلة، يقول: «ومن البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم وأنه ليس أحد أحق بمحاجة الملحدين من أحد». ويهمنا ما تدل عليه شكواه من أن كل مسلم لعصره أصاب حظّا من طريقة المتكلمين فى حجاج أصحاب الملل والنحل الفاسدة، وبالمثل كانت العامة تصيب حظوظا من الثقافة الدينية واللغوية والشعرية.

وليس من شك فى أن ذلك كان ثمرة ازدهار الحركة العلمية فى العصر، فقد تغلغلت المعرفة والثقافة فى جميع الأوساط حتى فى أوساط العامة، وأصبحتا غذاء لجميع العقول والقلوب، وبرزت صفوة من العلماء والأدباء كان جمهورها من أبناء هؤلاء العامة قادت الحركتين العلمية والأدبية قيادة خصبة باهرة، إذ استطاعت أن تسيغ كل ما نقل إلى العربية من ثقافات متباينة وأن تضيف إليها من عقولها


(١) الحيوان ٥/ ٣٠٤.
(٢) النجوم الزاهرة ٢/ ٣٣٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>