للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الضبى الكوفى والأصمعيات للأصمعى البصرى، وهما تزخران بالغريب. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن اللغويين لم يكادوا يتركون قصيدة ولا مقطوعة جيدة لشاعر جاهلى أو إسلامى إلا سجلوها ودوّنوها، وفسروها وشرحوها. وبذلك انقادت اللغة وسلست لمعاصريهم من الشعراء وغير الشعراء.

وكان من أهم ما حفزهم إلى ذلك القرآن الكريم والحديث النبوى، حتى لا تستغلق دلالتهما على أفهام الناس وأفهام العلماء أنفسهم، مما جعل الجاحظ يقول:

«للعرب أمثال واشتقاقات وأبنية وموضع كلام يدلّ عندهم على معانيهم وإرادتهم.

فمن لم يعرفها جهل تأويل الكتاب والسنة والشاهد والمثل. فإذا نظر فى الكلام وفى ضروب من العلم وليس هو من أهل هذا الشأن هلك وأهلك الناس (١)». وانضم إلى ذلك باعث سياسى، فإن خلفاء بنى العباس أظهروا محافظة شديدة على لغة القرآن الكريم وبعثوا العلماء على مدارستها والتعمق فيها ورواية كل ما يتصل بها من أنساب وأيام وأخبار وأشعار. وقد جعلوا مقياس وظائفهم الكبيرة التفوق فيها، فكانوا لا يستوزرون ولا يستكتبون إلا من حذقها وبرع فى أدائها. وأخذوا أبناءهم بتعلمها، بل بإتقانها، فأحضروا لهم كبار اللغويين ليحفظوهم كثيرا من نماذجها الشعرية وكى يقفوهم على صياغاتها وأساليبها، وتأليف المفضل الضبى للمهدى كتاب المفضليات، وهو لا يزال ناشئا فى عهد أبيه، ذائع مشهور. وبذلك سرى فى القصر العباسى ذوق محافظ كان له أثره فى الشعراء، إذ كانوا يمثلون بين أيدى الخلفاء مادحين لهم. وكانوا يقيسون جودتهم بهذا الذوق، فكان لا بد لهم أن يتلاءموا معه حتى يظفروا بما يبتغون من جوائز كبيرة. وكانت مجالس الخلفاء تكتظ باللغويين من مثل الكسائى والأصمعى، فكان لا بد للشعراء أن يروقوهم حتى ينالوا استحسانهم، ويرى ذلك الخلفاء منهم فيجزلوا لهم فى العطاء.

وبذلك أصبح اللغويون سدنة الشعر فى هذا العصر وحرّاسه، فمن نوّهوا به طار اسمه، ومن لوّحوا فى وجهه خمل وغدا نسيا منسيّا. ويلقانا كثير من الشعراء يعرضون عليهم أشعارهم قبل إنشادها فى المحافل العظام، فإن استحسنوها مضوا فأنشدوها، وإن لم يستحسنوها ذهبوا يعاودون الكرّة بصنع قصائد جديدة آملين أن تظفر باستحسانهم، فمن ذلك ما يروى عن مروان بن أبى حفصة


(١) الحيوان ١/ ١٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>