للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من أنه لما نظم قصيدته: (طرقتك زائرة فحىّ خيالها)

وهى إحدى روائعه فى المهدى ذهب إلى حلقة يونس النحوى فقال له: قد قلت شعرا أعرضه عليك، فإن كان جيدا أظهرته، وإن كان رديئا سترته. وأنشده القصيدة، فأعجب بها يونس وقال له إنها بريئة من العيوب (١). حينئذ مضى فأنشدها المهدى، فزحف من صدر مصلاّه حتى صار على البساط إعجابا بما سمع، ثم قال لمروان:

كم هى؟ قال مروان: مائة بيت، فأمر له بمائة ألف درهم، فكانت أول مائة ألف درهم أعطيت لشاعر فى أيام بنى العباس (٢). ويسوق المرزبانى فى كتابه الموشح فصلا طويلا (٣)، يصور فيه كيف كان الشعراء يعرضون أشعارهم على اللغويين ليجيزوها لهم، فهم قضاة الشعر وصيارفته، وفى ذلك يقول الخليل بن أحمد لابن مناذر: «إنما أنتم-معشر الشعراء-تبع لى، وأنا سكّان السفينة إن قرّظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم (٤)».

وعلى هذا النحو سيطر اللغويون على سوق الشعر العباسى، وقد مضوا يتمسكون بالمثل الشعرى القديم تمسكا شديدا، وهو تمسك جعل كثيرين منهم يسقطون الشعراء العباسيين إسقاطا حتى لنرى أبا عمرو بن العلاء يختم الشعر بذى الرّمّة والرّجز برؤبة قائلا فى المحدثين: «إنهم كلّ (٥) على غيرهم، إن قالوا حسنا فقد سبقوا إليه، وإن قالوا قبيحا فمن عندهم (٦)». وكان الأصمعى يختم الشعر بابن ميّادة وابن هرمة وأضرابهما من شعراء نجد والحجاز الذين أدركوا الدولة العباسية (٧). وأنشده إسحق الموصلى بيتين من شعره دون أن يسمى قائلهما، فلما أظهر إعجابه بهما قال له إسحق: إنهما من نظمه، فبادره قائلا: أفسدت الشعر، إن التوليد فيهما لبيّن (٨). ويروى الرواة أن ابن مناذر كان يقول لأبى عبيدة: «اتّق الله واحكم بين شعرى وشعر عدىّ بن زيد، ولا تقل ذاك جاهلى وهذا عباسى، وذاك قديم وهذا محدث، فتحكم بين العصرين ولكن احكم بين الشعرين، ودع العصبية (٩)». وكان ابن الأعرابى يقول: إنما أشعار هؤلاء


(١) أغانى (طبع دار الكتب) ١٠/ ٨٢.
(٢) أغانى ١٠/ ٨٨.
(٣) الموشح ص ٣٥٨ وما بعدها.
(٤) أغانى (طبعة الساسى) ١٧/ ١٦.
(٥) كل: عالة.
(٦) أغانى (ساسى) ١٦/ ١٠٩.
(٧) أغانى (دار الكتب) ٤/ ٢٧٣.
(٨) أغانى ٥/ ٣١٨.
(٩) أغانى (ساسى) ١٧/ ١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>