للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المحدثين-مثل أبى نواس وغيره-مثل الرّيحان يشمّ يوما ويذوى فيرمى به، وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حرّكته ازداد طيبا (١)».

ولا شك فى أن إهدار اللغويين لشعر العباسيين بسبب حداثته خطأ فى التقويم، إذ الجودة الفنية لا تقاس بالقدم والحداثة، والشعر الجيد جيد فى كل زمان ومكان.

ولكن من الحق أنهم-بهذا الموقف-جعلوا نماذج الشعر القديم، بالقياس إلى العباسيين، تصبح كالأمهات الغاذية، فكلهم نهلوا من أئدائها وتغذوا بها غذاء سرى فى قلوبهم وتمكن من نفوسهم. ويأخذنا العجب حين نقرأ لهؤلاء الشعراء، فنراهم عربا تامين وكأنهم فصلوا توّا من الجزيرة. ومع هذه العروبة اللغوية القوية فيهم كان اللغويون لا يستشهدون بأشعارهم مخافة أن يحدث اضطراب فى النموذج الشعرى القديم، وحتى يحتفظوا له بكل ما يمكن من صحة وسلامة ودقة. وقد مضوا يعدّون عليهم سقطاتهم، وهى ليست سقطات بالمعنى الصحيح، إذ هى فى كثرتها إما ضرورات رآها الشعراء العباسيون فى الشعر القديم، فقاسوا عليها، وإما لغات شاذة رأوها أيضا فى هذا الشعر وظنوا أن من حقهم مجاراتها، وإما اشتقاقات وأبنية استحدثوها على ضوء المقاييس اللغوية التى تلقنوها. واقرأ فى كل ما نثره المرزبانى فى «الموشح» من هذه السقطات فستراه قلما يعد وهذه الوجوه الثلاثة.

ونضرب مثلا لذلك: ما كان يأخذه الأخفش على بشار من اشتقاقه فى بعض أشعاره كلمتى «الوجلى، والغزلى» من الوجل والغزل ظنّا منه أن هذا من حقه وإن لم يسمع عن العرب، وكذلك جمعه لفظة «نون» بمعنى البحر على «نينان» ظنّا منه أن الكلمة تدخل فى قياس هذا الجمع (٢). وأبو نواس هو أكثر العباسيين مآخذ (٣)، وهى تردّ عنده إما إلى ضرورات شعرية وإما إلى بعض لهجات عربية، وفى ذلك يقول ابن قتيبة: «وقد كان أبو نواس يلحّن فى أشياء من شعره لا أراه فيها إلا على حجّة من الشعر المتقدم وعلى علّة بيّنة من علل النحو، منها قوله:

فليت ما أنت واط ... من الثّرى لى رمسا (٤)


(١) الموشح ص ٢٤٦.
(٢) الموشح ص ٢٤٦ وما بعدها.
(٣) الموشح ص ٢٧٢ وما بعدها.
(٤) رمسا: قبرا.

<<  <  ج: ص:  >  >>