للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اترك الرّبع وسلمى جانبا ... واصطبح كرخية مثل القبس (١)

وتتردد مع هذا الصياح فى خمرياته مجاهرة بأنه يقترف ما يقترف من آثامه دون تفكير فى جنة أو نار، ولكن من الحق أنه لم يكن زنديقا ولا شعوبيّا، إنما كان متحلل الأخلاق ساقط المرءوة. وأكبر الظن أنه اندفع فى مجونه هروبا من واقع نشأته وواقع أمه على نحو ما سنوضح ذلك فى ترجمته، وكأنه يريد أن ينسى ماضيه وذكرياته السيئة.

وقد انتشر فى العصر شعر الزهد، وكان أكثر اتصالا بحياة الجماهير من شعر الخمر والمجون، فإنها لم تكن تعرف ترفا ولا ما يشبه الترف، وكانت تعيش حياة دينية مستقيمة يشيع فى بعض جوانبها النسك والعبادة. وإذا كان كتاب الأغانى يفيض بالمجون فإن كتب الطبقات التى ترجمت للفقهاء والمحدثين تفيض بأخبار العبّاد والزهاد الذين رفضوا الدنيا وشهواتها وملاذها وآثروا ما يبقى على ما يفنى، ممسكين أيديهم عن أخذ عطاء أو مال من خليفة أو وال. ويشيع مع هذه الأخبار كثير من الأشعار التى تصور زهد هؤلاء الناسكين وانصرافهم عن متاع الدنيا الزائل والإقبال على الآخرة بالتقوى والتوكل على الله والعمل الصالح. وقد تبعهم كثير من الشعراء يردّدون نفس النغم، حتى شعراء المجون أنفسهم فإن منهم من كان يثوب إلى نفسه فيعاف ما تردّى فيه من فسق ومجون، وحينئذ إما أن يقلع عن غيه إلى الأبد على نحو ما أقلع محمد بن حازم الباهلى (٢)، وإما أن يقلع إلى حين يطول أو يقصر على نحو ما يلقانا عند أبى نواس مما جعل ديوانه يشتمل على مثل قوله (٣):

ألا ربّ وجه فى التراب عتيق ... ويا ربّ حسن فى التراب رقيق (٤)

فقل لقريب الدار إنك راحل ... إلى منزل نائى المحل سحيق

وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب فى الهالكين عريق

إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ فى ثياب صديق


(١) كرخية: خمرا منسوبة إلى الكرخ ساحية الملاهى ببغداد.
(٢) أغانى (طبعة دار الكتب) ١٤/ ١٥ وما بعدها.
(٣) الديوان ص ٢٩٩.
(٤) عتيق: جميل.

<<  <  ج: ص:  >  >>