أنه ليس بين أيدينا نقوش كثيرة، نستطيع أن نعرف منها بالضبط الزمن الذى يعد بدءا حقيقيّا للفصحى. وحقّا عثر علماء الساميات كما قدمنا فى غير هذا الموضع على نقوش تمتد من أواخر القرن الثالث الميلادى إلى القرن السادس، غير أنها قليلة، ثم هى قصيرة، وأكثرها فى أمور شخصية، وليس بينها نص أدبى أو نص طويل يمكن أن نتبين فى تضاعيفه جملة الخصائص اللغوية لتلك اللغة التى كان يتحدث بها كتبة هذه النقوش، وجميعها على لسان الشخص الثالث الغائب، وليس بينها نص على لسان مخاطب أو متكلم، وهى تخلو خلوّا تامّا من الشكل والحركات وحروف العلة وعلامات الإعراب.
على أن من يرجع إلى هذه النقوش يجدها تقترب اقترابا شديدا من فصحانا، وقد وقفنا فى الفصل الأول عند أقدمها وهو نقش النمارة المؤرخ بسنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وهو لامرئ القيس ثانى ملوك الحيرة، وضع على قبره فى النمارة شرقىّ جبل الدروز، وقد لاحظنا أن كاتبه استخدم كلمة بر الآرامية بدلا من ابن العربية، غير أن النقش بعد ذلك تام فى عروبته سواء من حيث الأسماء والأفعال، أو من حيث استخدام أداة التعريف العربية أل. وأيضا فإن خطه المكتوب به مع اشتقاقه من الخط النبطى يعد مقدمة للخط العربى. إذ توجد فيه الروابط بين الحروف كما تتخذ الحروف فيه شكلا أكثر استدارة.
ولعلنا لا نبعد إذ اتخذنا هذا النقش بدءا لتكون الفصحى، وقد لقّب امرؤ القيس فيه بلقب ملك العرب، وهى أول مرة نعثر فيها على هذا اللقب، وقد يكون فى ذلك ما يدل دلالة واضحة على أن العرب أخذوا يفكرون فى إنشاء وحدة سياسية لهم منذ هذا التاريخ، وكانوا قبله لا يفكرون فى هذه الوحدة ولا فى أن يستقلوا بخط خاص بهم يميزهم أو يميز كتابتهم من كتابه المسند الجنوبية وكتابة الآراميين الشمالية.
ومعنى ذلك أننا نتخذ من هذا النقش رمزا لإحساسهم إحساسا عميقا بوجوب اتحادهم إزاء الدول التى كانت تناهضهم فى الشمالين الغربى والشرقى، ونقصد دولتى الروم والفرس، فقد قضى الروم على دولة أسلافهم من النبط فى سلع وتدمر وفرضوا سيادتهم على القبائل العربية المجاورة لهم، وبالمثل فرض الفرس سيادتهم