للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

على الحيرة وقبائل العراق. وهذا فى الشمال، أما فى الجنوب فقد هاجم الحبش اليمن واستولوا عليها فى أواسط القرن الرابع لمدة عشرين عاما، وعادوا فى سنة ٥٢٥ فاستولوا عليها.

والذى لا ريب فيه أن هذه الأحداث جعلت العرب يشعرون أنهم مهددون فى الشمال والجنوب، وليس ذلك فحسب، فإنهم رأوا الديانتين اليهودية والنصرانية وكذلك الديانة الفارسية المجوسية، رأوا كل هذه الديانات تغزو دينهم. وكان هذا كله حافزا لهم أن يقاموا من يريدون أن يتخطفوهم، فنمت شخصيتهم السياسية، وأخذوا يكونون لهم إمارات مختلفة فى الشمال، يتجمعون حولها، والتفّت قلوبهم وأهواؤهم حول مكة بيت أصنامهم وكعبتهم الكبرى. وفى هذه الأثناء أخذوا يسقطون إلى الجنوب منذ القرن الرابع ليؤازروا إخوانهم اليمنيين فى مقاومة عدوهم المشترك من الأحباش، وكان اليمنيون يرحّبون بهم، لما يقدمونه لهم من عون ومساعدة.

وليس هذا كل ما نلاحظه، فنحن نلاحظ أيضا أن زمام القوافل التجارية يتحول إلى مكة، فلم يعد بيد اليمنيين المهددين بالأحباش ولم يعد بيد النبط المهددين بالروم، وإنما أصبح بيد المكيين البعيدين عن الدولتين، وربما كانوا يرجعون فى أصولهم إلى النبط، وكأنما هبطوا إليها بعيدا عن الروم وجيوشهم وما يبغون من فرض سيادتهم عليهم. والمظنون أن الثموديين هبطوا بدورهم إلى الطائف، أما اللحيانيون فسقطوا إلى منازل هذيل.

وفى هذه الأثناء أخذت شخصية هؤلاء العرب الشماليين اللغوية تنمو نموّا سريعا، كما أخذ خطهم هو الآخر ينمو فى سرعة، على نحو ما يصور لنا ذلك نقش زبد المؤرخ بسنة ٥١٢ للميلاد. وزبد خربة بين قنسرين ونهر الفرات، ونقشها مكتوب بثلاث لغات: العربية واليونانية والسريانية، وهو يتضمن أسماء أشخاص بنوا كنيسة بموضعه، وأهميته ترجع إلى أن خصائص الخط العربى الجاهلى تتكامل فيه. ومن المؤكد أنه حدثت تطورات مختلفة فى الحقبة الممتدة بينه وبين نقش النمارة هيأت له هذه الصيغة الخطية النهائية. وعلى مثاله نقش حران اللّجا المؤرخ بسنة ٥٦٨ للميلاد، وقد وجد على باب معبد بنوه فى الشمال الغربى لجبل الدروز جنوبى دمشق، وجميع كلماته وعباراته عربية، وهو يمضى على هذا النحو:

<<  <  ج: ص:  >  >>