للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمه فكانت من موالى بنى زهرة القرشيين. وكان أبوه يشتغل بالحجامة ويظهر أن سبل العيش ضاقت به فى بلدته، فانتقل منها إلى الكوفة بأسرته، ومعه ابناه الصغيران: زيد وأبو العتاهية، ولا يكاد يشبّ ثانيهما، حتى نراه ينتظم فى سلك المخنثين ممن كانوا يخضبون أيديهم ويتزينون ويلبسون ملابس النساء حاملين لزوامل تميزهم (١). ولعل فى ذلك ما يدل على ما كان يحسه هذا الغلام من ضياع، إذ نشأ فى أسرة فقيرة مغمورا، لا يعتزّ بأى شئ فى دنياه من جاه أو حتى ثروة ضيقة، وكان دميم الوجه قبيح المنظر (٢)، نزعت به نفسه إلى اللهو والمجون، فماذا يصنع؟ إنه لم يجد أمامه إلا أن ينخرط فى جماعة المخنّثين، وبذلك كتب عليه أن يكون سيّئ السيرة فى مطالع حياته. وكان أخوه زيد قد احترف عمل الخزف وبيع الجرار والفخار، فحاول أن ينقذه مما تردّى فيه، وما زال به حتى أشركه معه فى حرفته، وكان نبع الشعر قد أخذ يتدفّق على لسانه، فكان يأتيه الأحداث والمتأدبون فينشدهم أشعاره ويكتبونها على ما تكسّر من الخزف وما يشترونه من الجرار (٣).

واشتهر أمر أبى العتاهية فى الكوفة وأخذ يختلط ببيئات المجّان من الشعراء أمثال مطيع بن إياس ووالبة، كما أخذ يختلف إلى حلقات العلماء والمتكلمين فى مساجد الكوفة، مما أتاح له إتقان العربية والوقوف على مذاهب أصحاب المقالات، وهو فى أثناء ذلك يكثر من نظم رقائق الغزل ومن الغدوّ والرواح إلى نوادى القيان والمغنين، ولم تلبث الصلة أن توثقت بينه وبين مغن ناشئ من النّبط دوّت شهرته فيما بعد هو إبراهيم الموصلى، وتعاقدا على أن ينزلا بغداد (٤)، لعل بضاعتهما تروج فيها، وفتحت الأبواب لإبراهيم بينما سدّت فى وجه أبى العتاهية، فصمّم على العودة إلى الكوفة، وعرّج فى طريقه على الحيرة، ورأى بها نائحة تسمى سعدى كانت مولاة لبنى معز بن زائدة، وكانت ذات حسن وجمال، فشغفت قلبه حبّا، وأخذ ينظم فيها شعره، غير أنها أعرضت عنه، وتصدّى له مولاها عبد الله ابن معن، ونهاه أن يعرض لها، فعمد إلى هجائه هجاء مقذعا فأنزل به


(١) أغانى ٤/ ٧.
(٢) أغانى ٤/ ٧٥ وانظر المسعودى ٣/ ٣٦٠.
(٣) أغانى ٤/ ٩.
(٤) أغانى ٤/ ٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>