للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهكذا ظلّ يسترفد الخلفاء والوزراء، حتى وافته منيته سنة مائتين وإحدى عشرة وقيل سنة اثنتى عشرة أو ثلاث عشرة.

ولعل فيما قدمنا ما يدلّ دلالة بينة على أن طبيعة أبى العتاهية كانت معقدة، فهو نبطى أحسّ غير قليل من المسكنة منذ نشأته، وقاده هذا الإحساس أولا إلى أن يصبح مخنثا، ثم ماجنا، وقاده أخيرا إلى أن يصبح زاهدا على طريقة المانويين من سؤال الناس ومما طابت به أنفسهم له. وتدل نزعته المانوية على أنه اضطرب بين أصحاب المقالات، ويؤكد ذلك عنده ما يقال من أنه كان على مذهب الشيعة الزيدية البترية (١)، ونؤمن-مع نيكلسون (٢) -بأنه لم يعش هذا المذهب حقّا، إذ يشيد فى أشعاره بأبى بكر وعمر وعثمان (٣)، إنما هو ضرب من الاضطراب بين أصحاب النحل سرعان ما زايله. وقد دفعته صلته بالمانويين إلى الاطلاع الواسع على الآداب الفارسية، ونقل كثيرا من حكمها إلى أشعاره. ومن خير ما يصور ذلك قصيدته «ذات الأمثال» التى صور فيها نظرية الخير والشر المانوية والتى أنشدنا منها الأبيات السالفة. ويظهر أنه قرأ كثيرا مما ترجم عن فلاسفة اليونان، ومن ثمّ وصل بعض معاصريه بينه وبينهم (٤)، ومرّ بنا فى الفصل السابق نقله لجوانب من مراثى فلاسفة اليونان للإسكندر فى رثائه لصديقه على بن ثابت، وكان من رءوس (٥) الزنادقة، ولعله هو الذى دفعه فى هذا الطريق. وكان إلى ذلك مثقفا ثقافة إسلامية واسعة، وهى تتضح فى كثرة ما نقله إلى رهدياته من آى الذكر الحكيم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أيضا مثقفا ثقافة عربية دقيقة جعلته يتقن اللغة ويبرع فى الشعر، حتى أصبح له طبعا.

وكل هذه العناصر التى اصطلحت على تكوين طبيعة أبى العتاهية جعلتها أبعد الأشياء عن البساطة كما جعلتها خصبة واسعة الخصب. وكل من يقرأ أشعاره يلاحظ أنها تمثل حياته وما حدث فيها من انقلاب أوضح تمثيل، فهو فى شطر منها يتغزل ويصف الخمر، وهو فى الشطر الثانى يكف عن الغزل ووصف الخمر


(١) أغانى ٤/ ٦.
(٢) انظر التاريخ الأدبى للعرب لنيكلسون ص ٢٩٧.
(٣) الديوان ص ١٠٤.
(٤) أغانى ٤/ ٢.
(٥) الفهرست لابن النديم ص ٤٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>