للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الناس حياتهم ولا يصورها لهم فى كروب أبى العتاهية التى تخنق الأنفاس والتى تجعله يقف طويلا عند سكرات الموت وما يعانيه المحتضر من آلام كما تجعله يقف عند نزلاء القبور والقبور نفسها يسألها عن أصحابها، مسجّلا أن ذوى السلطان يستوون مع السوقة فى الموت وأن الطبيب كثيرا ما يسبق مريضه إلى ساحته، يقول (١):

وقبلك داوى الطبيب المريض ... فعاش المريض ومات الطبيب

وهو يضيف إلى حديثه الطويل عن الموت والقبور حديثا عن البعث والنشور، ولكنه لا يسترسل فى ذكر عذاب الجحيم ونعيم الجنان، كما أشرنا إلى ذلك آنفا، بل يلم إلماما بالبعث والحساب على شاكلة قوله (٢):

فلو أنا إذا متنا تركنا ... لكان الموت غاية كلّ حىّ

ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شىّ

ويتسع أبو العتاهية فى أشعاره الزاهدة، حتى لتؤلف وحدها ديوانا كاملا، وفعلا جمع منها ابن عبد البرّ النّمرى الأندلسى ديوانا مستقلا، وقد بنى اليسوعيون على هذا الديوان نشرتهم لأشعار أبى العتاهية باسم «الأنوار الزاهية فى ديوان أبى العتاهية» ضامين إلى رواية النمرى ما تيسر جمعه من أشعار الشاعر وقصائده.

وأبو العتاهية فى زهدياته، كما رأينا، يطيل الحديث عن الحياة والموت والفناء ومصير الإنسان، ويتحول بجانب ذلك إلى ما يشبه واعظا، وهو فى عظاته يستمد من القرآن الكريم والحديث النبوى ووعظ الوعاظ من أمثال الحسن البصرى، كما يستمد من أشعار سابقيه، وقد وقف المبرد عند موعظة له يستهلها بقوله:

يا عجبا للناس لو فكروا ... وحاسبوا أنفسهم أبصروا

وردّها إلى بعض الأحاديث النبوية وإلى كلام الحسن البصرى وعلى بن أبى طالب وإلى معانى بعض الشعراء مثل الخليل بن أحمد (٣). وهو فى جوانب من مواعظه يلتقى بآى الذكر الحكيم فى اتخاذ العبرة من الأمم الداثرة والقرون الخالية


(١) الديوان (طبعة سنة ١٩٠٩) ص ١٨.
(٢) الديوان ص ٤٠٢.
(٣) الكامل للمبرد (طبعة رايت) ص ٢٣٠ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>