للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ودائما يشكو مسكنته وأن صاحبته لا تنيله كثيرا ولا قليلا وأنها استرقته ولا تردّ عليه حريته، وأنها أضنته وأسقمته، وأنها تزهد فيه وهو المحب الوامق الذى يرسل الدموع مدرارا على من ظلمته، وإنه ليستجير ولا مجير ويتصبّر ولا صبر إلا النواح الطويل

وينتقل أبو العتاهية من مرحلة غزله وخمره إلى مرحلة جديدة تعدّ انقلابا فى حياته، فقد تحول من حياة اللهو إلى حياة الزهد، وظل نحو ثلاثين عاما يتغنى بالكأس الخالدة كأس الموت الدائرة على الخلق، فالكل مصيره إلى الفناء والكل وشيك الزوال، والكل سيصبح ترابا فى تراب، يقول (١):

لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلّكم يصير إلى تباب (٢)

ويقول (٣):

الناس فى غفلاتهم ... ورحى المنيّة تطحن

ويقول (٤):

كل حىّ عند ميتته ... حظّه من ماله الكفن

ويقول (٥):

بين عينى كلّ حىّ ... علم الموت يلوح

نح على نفسك يا مس‍ ... كين إن كنت تنوح

وهكذا يمضى ينعى الحياة إلى أهلها ويبكيها ويندبها، مهولا رقدة الموت الأبدية، ومنغصا على من يسمعه كل لذة له وكل نعيم، فالأجل قصير والمنايا راصدة، والقدر أزلى ونحن آلات بأكفه. ولعله من أجل هذا الإحساس آمن بالجبر والاضطرار (٦)، وإنه ليصرخ من أعماق قلبه: ليس هناك إلا الفناء وإلا الأسى والكآبة، وهى نظرة سوداء جاءته من مانويته، إذ الإسلام لا ينعى إلى


(١) الديوان ص ٢٣.
(٢) تباب: هلاك.
(٣) الديوان ص ٢٦٧.
(٤) الديوان ص ٢٥٢.
(٥) أغانى ٤/ ١٠٣.
(٦) أغانى ٤/ ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>