للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مسلم ابن كان يكبره يسمى سليمان، وكان كفيفا، كما كان شاعرا مجيدا، ويجمع الرواة على أنه كان زنديقا وأن الذى لقّنه زندقته بشار (١)، ومن قول الجاحظ فيه: «كان من مستجيبى بشار الأعمى، وكان يختلف إليه وهو غلام، فقبل عنه ذلك الدين (٢)». وفى اختلافه إليه ما يدلّ على أنه نزل البصرة، ويظهر أنه نزلها مع أبيه، إذ كان لا يزال غلاما، وكان ضريرا، يحتاج إلى من يعينه ويعوله، وفى ديوان مسلم قصيدة طويلة (٣) يذكر فيها مقامه أولا بالكوفة، ثم نزوله البصرة وذكرياته السعيدة بها، وذكريات الحب واللهو.

وفى ذلك كله ما يدل على أن مسلما نشأ بالكوفة، ثم انتقل إلى البصرة، ولا نرتاب فى أنه كان يختلف مع أخيه سليمان إلى بشار، وأن ذلك أتاح له أن يحمل عنه شعره، ولكنه لم يحمل عنه زندقته، كما حملها أخوه، إذ لم يعرف عنه شئ من الزندقة. ويظهر أنه مضى يثقف نفسه بكل معارف عصره وأنه عكف على قراءة كثير من الآداب المترجمة، ونراه يصرح بأن قوله:

دلّت على عيبها الدّنيا وصدّقها ... ما استرجع الدهر مما كان أعطانى

قد أخذ معناه من التوراة (٤). وفى أشعاره من التعمق فى الأفكار ما يدل دلالة قاطعة على أنه اختلف إلى متكلمى البصرة وحذق على أيديهم النظر والتفكير وتصحيح المعانى والخلوص إلى دقائقها وطرائفها وحدودها الخفية. وأيضا فى أشعاره ما يدل دلالة بينة على ثقافة واسعة بالشعر القديم: الجاهلى والإسلامى، فقد أشربته روحه لا بصياغاته فحسب، بل أيضا بجميع معانيه وصوره وخصائصه الموسيقية. والتحمت فى نفسه هذه الثقافة بشعر بشار ومعاصريه من شعراء الجيل العباسى الأول التحاما قويا خصبا.

ويظهر أن مواهبه الشعرية استيقظت فى نفسه مبكرة، وليس بين أيدينا أخبار


(١) انظر الحيوان ٤/ ١٩٥ ومعجم الأدباء ١١/ ٢٥٥ ونكت الهميان ص ١٦١ وفى الكتابين الأخيرين أنه ابن مسلم وهو خطأ، انظر فيه الحيوان والبيان والتبيين ٣/ ٢٠٢ حيث ينص الجاحظ على أنه أخوه، وقد توفى قبله بنحو ثلاثين عاما سنة ١٧٩ للهجرة.
(٢) الحيوان ٤/ ١٩٥.
(٣) راجع الديوان (طبع دار المعارف) ص ٢٢٥.
(٤) انظر ترجمة أبى الفرج لمسلم الملحقة بديوانه ص ٣٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>