للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد استودعت دنّا لها فهو قائم ... بها شفقا بين الكروم على رجل

شققنا لها فى الدّنّ عينا فأسبلت ... كألسنة الحيّات خافت من القتل (١)

وقد جعلها فى البيت الأول من بنات المجوس كما جعل شاربها مسلما وسماه بعلا أو زوجا، لأنه اشتراها وخطبها وهو يعنى نفسه. أما فى البيت الثانى فقال إنها ظلت طويلا فى شجرة الكرم، وظلت واقفة بها شفقة لها وحنّوا عليها. وقال فى البيت الثالث إنهم شقّوا لها فى دنها ثقبا وهى تسيل منه حمراء مهتزة، كأنها ألسنة حيّات ترتجف من القتل، فهى لا تكف عن إرسالها لها خوفا وفزعا. ومسلم من أمهر الشعراء وأدقهم فى التصوير، وهى دقة تتراءى فى جميع جوانب ديوانه من مثل قوله مصورا سرعة النوق ونحوها لطول السّفر:

إلى الإمام تهادانا بأرحلنا ... خلق من الرّيح فى أشباح ظلمان (٢)

كأن إفلاتها والفجر يأخذها ... إفلات صادرة عن قوس حسبان (٣)

فقد جعل نوقهم كأنما خلقت من الريح لسرعتها، وصوّرها فى ضمورها كأنها ذكور نعام وهى تمرّ مسرعة مرور ظبية رماها صائد فأخطأها، فهى لا تنى عن الانطلاق والعدو الشديد. وقد نوّه القدماء طويلا بتصويره للسفينة بمثل قوله:

إذا أقبلت راعت بقنّة قرهب ... وإن أدبرت راقت بقادمتى نسر (٤)

أقلّت بمجدافين يعتورانها ... وقوّمها كبح اللّجام من الدّبر (٥)

كأن الصّبا تحكى بها حين واجهت ... نسيم الصّبا مشى العروس إلى الخدر (٦)

وهو يشبه فى البيت الأول صدرها برأس ثور وحشى كما يشبه مجدافيها بجناحى نسر، ويرسم صورتها فى البيت الثانى بمجدافيها وسكّانها الذى يقوّم جموحها.


(١) يقصد بالعين الثقب. أسبلت: سالت
(٢) تهادانا: تحملنا. أشباح: أشخاص. ظلمان: جمع ظليم وهو ذكر النعام.
(٣) إفلاتها سرعتها وانبعاثها فى السير. صادرة راجعة. قوس حسبان: ضرب مشهور فى عصرهم من القسى.
(٤) راعت: أفزعت. قنة قرهب: رأس ثور وحشى. قادمتا النسر: جناحاه، أراد بهما المجدافين.
(٥) أقلت: ارتحلت وسارت.
(٦) الخدر: البيت الذى تستتر فيه المرأة.

<<  <  ج: ص:  >  >>