المنصور فضل ابنه يحيى، فولاه ولايات مختلفة فى إيران وأذربيجان. ويظهر أن علاقة وثيقة مبكرة انعقدت بين زوجة يحيى والخيزران زوجة المهدى، فإن زوجة يحيى حين ولدت ابنها الفضل فى ذى الحجة لسنة ١٤٧ وولدت الخيزران ابنها الرشيد فى شهر المحرم التالى أرضعت كل منهما ابن صاحبتها، فكانا أخوين فى الرضاع. ولا تكاد توافى السنة الثالثة من خلافة المهدى أى سنة ١٦١ حتى يتخذ يحيى مؤدّبا لابنه الرشيد، ويصبح منذ سنة ١٦٣ القيم على ديوان رسائله، فكان يلزمه ويدبر شئونه، حتى إذا توفى المهدى وخلفه الهادى وفكر فى تنحية الرشيد عن ولاية العهد عرف كيف يصرفه عن عزمه، فعظمت منزلته عند صاحبه، وتطورت الأمور سريعا، فتوفى الهادى وخلفه الرشيد لسنة ١٧٠ فاتخذ يحيى وزيرا له، وأطلق يده فى جميع شئون الدولة وسلّمه خاتم الخلافة، فأصبح كأنه الحاكم الحقيقى، وقد أقام ابنه الفضل على المشرق كله من النهروان إلى بلاد الترك وأقام ابنه جعفرا على المغرب كله من الأنبار إلى أقاصى إفريقية.
وكان يحيى عاقلا حصيفا يحسن السياسة وتدبير الحكم والنهوض بشئون الثقافة، فمضى كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع يصبغ نظم الدولة السياسية والإدارية بالصبغة الساسانية كما مضى يعنى بشئون الطب والترجمة، فأنشأ المارستان واستدعى له غير طبيب من الهنود وغيرهم، وشجع على الترجمة لكنوز الثقافات الهندية واليونانية والفارسية، وبعث نهضة فكرية واسعة. وفتح أبوابه للشعراء والمغنين وأسبغ عليهم هو وابناه الفضل وجعفر العطايا الجزيلة، حتى لتروى فى ذلك روايات تشبه الأقاصيص، وهى تدل على أنهم كانوا بحورا فياضة وغيوثا منهلّة. جود سيال توارثوه عن أبيهم خالد ممدوح بشار، وهو جود جعل صلاتهم لا تنقطع عن الشعراء، فإذا كثيرون منهم ينقطعون لهم، وإذا هم يشركون الرشيد فى جميع شعرائه، وقلما وجد شاعر لعصرهم فى بغداد إلا ودبّج فيهم بعض مدائحه، ومرت بنا أطراف من ذلك عند سلم الخاسر ومروان بن أبى حفصة ومسلم بن الوليد، وممن كان يختص بهم نصيب الأصغر، وله فى يحيى كلمة طارت أبياتها فى الآفاق من مثل قوله (١):
عند الملوك مضرّة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضرّ، وتنفع