للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فى الجزيرة متباعدين، فقد تطلق قبيلة كلمة على مسمى، ولا تسمع بها القبيلة البعيدة، فتضعها لمسمى يضاده ويكون ذلك اتفاقا ومحض صدفة، قال أبو عبيد فى باب الأضداد من كتابه الغريب المصنف: سمعت أبا زيد بن أوس الأنصارى يقول: «السّدفة فى لغة تميم الظلمة والسدفة فى لغة قيس الضوء. . ولمقت الشئ ألمقه لمقا إذا كتبته فى لغة بنى عقيل وسائر قيس يقولون لمقته بمعنى محوته (١)». وعن ابن دريد: «خرج رجل من بنى كلاب أو من سائر بنى عامر بن صعصعة إلى ذى جدن (من أقيال حمير) فأطلع إلى سطح، والملك عليه، فلما رآه الملك اختبره، فقال له: ثب أى اقعد، فقال: ليعلم الملك أنى سامع مطيع، ثم وثب من السطح. قال الملك: ما شأنه؟ فقالوا له: أبيت اللعن! إن الوثب فى كلام نزار الطفر (القفز) فقال الملك: ليست عربيتنا كعربيتهم (٢)». ولم يكن هذا التضاد بين لغة نزار الفصحى ولغة الجنوبيين الحميرية فحسب، بل كان أيضا فى كثير من الكلمات التى كانت تدور على ألسنة القبائل الشمالية لتباعد أوطانها.

ولا نريد أن نمضى فى تصوير الاختلافات بين لهجات القبائل فى الجاهلية، أكثر من ذلك، لسبب طبيعى وهو أننا لا نستطيع أن نستوعبها فى صحف معدودة، إنما أردنا أن نكشف عن بعض جوانبها ليتضح أنه كانت فى الجاهلية لهجات كثيرة، سجل منها اللغويون أطرافا، ومن غير شك لم يسجلوها جميعا لأنها لم تكن تعنيهم فى حد ذاتها، إنما كان يعنيهم التنبيه على ما يخالف الفصحى التى نظم بها الشعر الجاهلى ونزل بها القرآن الشريف، ومن أجل ذلك لم ينصّوا فى أكثر الأحوال على القبيلة التى كانت تنطق باللهجة الشاذة، وأيضا فإنهم مع نصهم أحيانا على القبيلة لا نستطيع أن نتبين كما قدمنا هل كل أفرادها كانوا يصطنعون تلك اللهجة أو أن ذلك كان خاصا ببعض عشائرها أو ببعض أفرادها. ولعل فى هذا كله ما يوضح صعوبة دراسة اللهجات الجاهلية، فعلى الرغم من مادتها الوفيرة التى جمعها اللغويون تظل غير واضحة ويظل المجال واسعا فيها للظن والتخمين، وخاصة حين نحاول أن نضع حدودا للهجة قبيلة بعينها كلهجة تميم أو لهجة هذيل. ونفس القدماء اضطربوا فى نسبة كثير مما نسبوه إلى القبائل، فتارة يجعلونه لتميم أو لعشيرة تميمية


(١) المزهر ١/ ٣٨٩.
(٢) المزهر ١/ ٣٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>