للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نشأته يختلف إلى حلقات الوعاظ والمتكلمين ولم يلبث عقله أن تشوش بما كان يسمع فى تلك الحلقات من مناقشات أصحاب الملل والنحل، فإذا هو يعتنق الثنوية المانوية مذهب آبائه ونحلتهم، وما كانت تقول به من أن العالم نشأ عن أصلين هما النور والظلمة، ولكل منهما إلهه الخاص، وأن مصدر بلاء العالم امتزاج هذين العنصرين، ومن أجل ذلك دعت إلى الزهد فى الحياة ونعيمها الزائل. ونراه فى عصر بنى أمية يكثر من الاجتماع بواصل بن عطاء رأس المعتزلة، مشاركا فيما كان يدور فى مجلسه من مخاصمات كلاميّة ودينية (١)، ونظن ظنّا أنه لم يظهر حقيقة عقيدته حينئذ، وإلا لهتف به واصل، كما هتف ببشار طالبا من أصحابه قتله (٢)، وفى بعض شعره أنه كان يستر نحلته خشية الحبس والعقاب والتنكيل به، يقول:

ربّ سرّ كتمته فكأنى ... أخرس أو ثنى لسانى خبل

ولو أنى أبديت للناس علمى ... لم يكن لى فى غير حبسى أكل

وتوفّى واصل سنة ١٣١ للهجرة، ولم تلبث الثورة العباسية أن اندلعت تسندها حراب الفرس والخراسانيين وسرعان ما انتصرت فأحسّ صالح كأن الحياة واتته، وأخذ يعلن عقيدته ويجاهر بها حينا، وحينا يسترها حين يخاف بعض الحكام، حتى ليصلى صلاة المسلمين حين تحين الصلاة، ويعجب من صلاته بعض من يعرف مذهبه، ويسأله فى ذلك متعجبا، فيقول: «سنة البلد وعادة الجسد وسلامة الأهل والولد». ونمضى فى العصر العباسى ويكثر الزنادقة والمتزندقون على نحو ما صورنا ذلك فى غير هذا الموضع، ويعلن صالح زندقته ولا يواريها، أو بعبارة أدق يعلن مانويته وثنويته، حتى ليؤلف-كما يقول ابن النديم-كتبا فى نصرة عقيدته (٣). وتبلغ به الجرأة أن يحاضر ويجادل فيها بمسجد البصرة، ويتعرض له غير متكلم من المعتزلة وغيرهم وخاصة أبا هذيل العلاف، ويروى أنه ناظره فى الامتزاج الذى يدعيه المانوية بين النور والظلمة فى الجوهر والطبع والفعل والمكان والأبدان والأرواح، وأنه أفحمه وقطعه، فقال:


(١) أغانى (طبع دار الكتب) ٣/ ١٤٦.
(٢) انظر البيان والتبيين ١/ ١٦.
(٣) الفهرست ص ٤٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>