أبا الهذيل هداك الله يا رجل ... فأنت حقّا لعمرى معضل جدل
وناظره أبو الهذيل مرة أخرى فى أصل عقيدته وما يؤمن به من إلهى النور والظلمة، وبدا منه كأنه يهجر ضلاله وغيه، فسأله أبو الهذيل: على أى شئ تعزم يا صالح؟ فقال: أستخير الله وأقول بالاثنين. وكأن المسألة تحوّلت عنده من الأخذ بالمنطق إلى باب الهوى وتقليد الآباء، ويظهر أن ذلك أفضى عنده إلى شكوك واسعة لا فى الديانات فحسب، بل فى حقيقة كل شئ، ولعله اطلع على مباحث السوفسطائيين اليونانيين وما آمنوا به من أن الأشياء لا حقيقة لها فى نفسها، ويدل على ذلك ما يقال من أنه ألف كتابا سماه كتاب الشكوك، ويروى إنه مات له ولد، فلقيه أبو الهذيل العلاف ومعه النظام، فوجده جزعا على ابنه، فقال له:
لا أعرف لجزعك وجها إذا كان الناس عندك كالزرع! فقال صالح: يا أبا الهذيل إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك، فقال أبو الهذيل: وما كتاب الشكوك؟ قال: كتاب وضعته، من قرأه شك فيما كان حتى يتوهم أنه لم يكن وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان، فقال له النظام: فشكّ أنت فى موت ابنك واعمل على أنه لم يمت وإن مات. وشكّ أيضا فى أنه قرأ هذا الكتاب وإن لم يكن قرأه، فحصر صالح. وفى أشعاره ما يدل على أنه عمى فى آخر عمره، إذ يقول:
عزاءك أيها العين السّكوب ... ودمعك إنها نوب تنوب
على الدّنيا السلام فما لشيخ ... ضرير العين فى الدّنيا نصيب
إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب
وتدخل سنة ١٦٦ للهجرة ويشدد المهدى فى تعقب الزنادقة، وينصب لهم ديوانا لمحاكمتهم ومن تثبت عليه الزندقة يصلب لتوه، حينئذ يفر صالح من البصرة إلى دمشق ويظل مستترا بها مدة، ثم يقبض عليه ويلقى به فى غياهب السجون ببغداد انتظارا لمحاكمته، ويصور مشاعره وهو فى السجن تصويرا دقيقا بمثل قوله:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
طوى دوننا الأخبار سجن ممنّع ... له حارس تهدا العيون ولا يهدا