للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قبرنا ولم ندفن فنحن بمعزل ... من الناس لا نخشى فنغشى ولا تغشى

ألا أحد يأوى لأهل محلّة ... مقيمين فى الدنيا وقد فارقوا الدنيا

كأنهم لم يعرفوا غير دارهم ... ولم يعرفوا غير التضايق والبلوى

ويختلف الرواة فى زمن هذه المحاكمة والخليفة الذى تولاها، فمن قائل إنه المهدى ومن قائل إنه هرون الرشيد، وقد ضعّف ابن المعتز القول الأول، وقال الصحيح أن الذى حاكمه وناظره فى زندقته الرشيد، وكان قد أنهى إليه أبيات يهجو بها الرسول-كبرت كلمة تخرج من فمه-لزواجه من زينب بنت جحش بعد فراق مولاه زيد لها (١)، وهى طعن صريح فى الرسول الكريم والذكر الحكيم، ولا بد أنه أنهى إليه كل شئ عن زندقته وإثنينيته ومانويته، فأمر بالقبض عليه، وزج به فى السجن، ثم عقد له يوم لمحاكمته، وتولّى الرشيد المحاكمة بنفسه، غير أنه حاول التبرؤ من كل ما نسب إليه، ويقال إنه ظل يستعطف الرشيد طويلا حتى رقّ له، ولكنه لم يلبث أن استنشده سينيته التى يقول فيها:

لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه

والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى فى ثرى رمسه (٢)

إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذى الضّنا عاد إلى نكسه (٣)

وإن من أدّبته فى الصّبا ... كالعود يسقى الماء فى غرسه

حتى تراه مورقا ناضرا ... من بعد ما أبصرت من يبسه

فتلا عليه الرشيد البيت الثانى، وقال له: نحن نتمثل وصيتك وما شهدت به على نفسك من أنك لا تترك الزندقة ولا تحول عنها أبدا، وأمر فضربت عنقه وصلب على الجسر ببغداد عقابا له وتنكيلا.

وكثير من أشعاره يدور على التنفير من الدنيا ومتاعها الزائل وذكر الموت والفناء، والحث على مكارم الأخلاق وطاعة الله، ولعله يريد إله النور والخير، وقد جعل


(١) ابن المعتز ص ٩٠.
(٢) الرمس: القبر.
(٣) الضنا هنا: المرض، والنكس: الانتكاس أى رجوع الناقه إلى مرضه.

<<  <  ج: ص:  >  >>