للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبات يروّى أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرّجل (١)

وكان مالك بن دينار المحدث الناسك لا يزال يتحدث فى مجالسه عن الموت، حتى لتكاد تخنقه العبرات، وله أشعار مختلفة يتحدث فيها عن القبور وأهلها وأنه أجل محدود ونفس معدود، وعما قليل يصبح الإنسان ترابا فى تراب، كمن سبقوه، فأولى له أن يتعظ ويعتبر، يقول (٢):

أتيت القبور فناديته‍ ... نّ أين المعظّم والمحتقر

وأين المدلّ بسلطانه ... وأين المزكّى إذا ما افتخر

تفانوا جميعا فما مخبر ... وماتوا جميعا ومات الخبر

تروح وتغدو بنات الثّرى ... فتمحو محاسن تلك الصّور

فيا سائلى عن أناس مضوا ... أمالك فيما ترى معتبر

وممن كان يكثر من إنشاد الشعر فى مواعظه سفيان بن عيينة وسفيان الثورى.

وكأن الوعاظ بذلك قدموا مادة واسعة لمعاصريهم من الشعراء كى يصوغوا على نمطها مواعظ تذكى الزهد والعمل الصالح فى نفوس الناس، وقد أقبل كثيرون ينظمون دقائق الزهد، حتى بين المجان حين كانوا يثوبون إلى أنفسهم على نحو ما مر بنا عند أبى نواس، وكما يلقانا عند محمد بن يسير، وكان ماجنا هجاء خبيثا، فقد ألم يوما بمجلس أبى محمد الزاهد صاحب الفضيل بن عياض، فأنشد (٣):

ويل لمن لم يرحم الله ... ومن تكون النار مثواه

واغفلتا فى كل يوم مضى ... يذكرنى الموت وأنساه

من طال فى الدنيا به عمره ... وعاش فالموت قصاراه

كأنه قد قيل فى مجلس ... قد كنت آتيه وأغشاه

محمد صار إلى ربّه ... يرحمنا الله وإياه

وكان من الشعراء الخلعاء المجان من يقلع إقلاعا عن غيه، فيكثر من أشعار


(١) البيان والتبيين ١/ ١١٩، والفسيل: صغار النخل.
(٢) عيون الأخبار ٢/ ٣٠٢.
(٣) الأغانى (طبعة دار الكتب) ١٤/ ٣٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>