للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الزهد مكفّرا بها عما قدمت يداه من مجون وخلاعة، ومن خير من يمثل ذلك محمد ابن حازم، وكان ينغمس فى اللهو والمجون، حتى إذا بلغ الخمسين من سنّه آلى على نفسه أن لا يشرب كأسا ولا يسير فى طريق غواية، وأخذ يكثر من شعر الزهد حاضّا على القناعة وقطع الأسباب المتصلة بالقلوب من متاع الدنيا الفانى بمثل قوله (١):

ومنتظر للموت فى كل ساعة ... يشيد ويبنى دائما ويحصّن

له حين تبلوه حقيقة موقن ... وأفعاله أفعال من ليس يوقن

وقوله الذى مرّ بنا فى الفصل الرابع:

اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس ... واقنع بيأس فإن العزّ فى الياس

واستغن عن كل ذى قربى وذى رحم ... إن الغنىّ من استغنى عن الناس

وكثيرون كانوا يأخذون أنفسهم بحياة زاهدة حقيقية، فهم لا يقفون على أبواب الخليفة ولا أبواب الوزراء والأمراء والقواد، بل يكتفون من العيش بالكفاف، وإن عرضت عليهم وظيفة أبوها حرصا على دينهم ورفضا لدنياهم، وممن اشتهروا فى هذا الباب الخليل بن أحمد واضع النحو والعروض، وله فى الزهد والعظة أبيات كثيرة من مثل قوله (٢):

عش ما بدا لك، قصرك الموت ... لا مهرب منه ولا فوت

بينا غنى بيت وبهجته ... زال الغنى وتقوّض البيت

واشتهر بأنه كان يأبى أن يصحب الخلفاء والحكام وذوى الجاه لما فى أيديهم من الدنيا، ويروى أن سليمان بن قبيصة بن يزيد بن المهلب، وكان واليا على السّند، وجّه إليه يستزيره فكتب إليه (٣):

أبلغ سليمان أنى عنه فى دعة ... وفى غنى غير أنى لست ذا مال

سخّى بنفسى أنى لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال


(١) انظر فى هذين البيتين وتالييهما العقد الفريد ٣/ ٢٠٧.
(٢) البيان والتبيين ٣/ ١٨٣.
(٣) إنباه الرواة ١/ ٣٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>