المروزى أبا، الخوارزمى أمّا، ولد سنة ثمانى عشرة ومائة للهجرة، ورحل فى طلب الحديث والعلم سنة إحدى وأربعين ومائة، فلقى المحدثين، وروى عن جماعة كثيرة وروى عنه خلائق لا تحصى، وهو يعدّ من كبار الحفاظ فى عصره وأحد من كانت تشدّ إليه الرحال للنهل من معين علمه وفضله، وكان يجمع بين حفظ الحديث والفقه على مذهب أبى حنيفة والأدب والنحو واللغة والشعر والفصاحة. واشتهر شهرة مدوية بنسكه وزهده، حتى قال سفيان الثورى:«لو جهدت جهدى أن أكون فى السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر». وكان يخرج مع الجيوش الغازية للروم يجاهد فى سبيل الله من جهة، ومن جهة ثانية يعظ الجنود ويحمسهم للقتال ويلقى على الناس الحديث فى الثغور من مثل طرسوس. وهو بذلك يصحح فكرة شاعت عن زهاد المسلمين وعبادهم هى أنهم كانوا سلبيين لا يشاركون فى الواجبات الوطنية وهى إحدى الأفكار التى أشاعها المستشرقون ظانين أن زهد المسلمين كان يفصلهم عن الحياة على شاكلة زهد الديانة المسيحية وما ارتبط بها من رهبانية، وهو ظن واهم فإن زهاد المسلمين-وخاصة الأولين-لم ينفصلوا عن الحياة بل كانوا يتصلون بها، ليكسبوا قوتهم، ويعيشوا من كسبهم، لا مما يلقى إليهم من فتات الموائد، ولذلك كنا نجدهم يتجرون ويحترفون حرفا كثيرة على نحو ما سنرى عند محمود الوراق فإنه كان يحترف النخاسة وبيع الجوارى والإماء، وكان عبد الله بن المبارك يتجر ليكسب معاشه. وكانوا يلبون دائما نداء الوطن ويتقدمون الصفوف المجاهدة طلبا للاستشهاد فى سبيل الله. وكانوا يعدون هذا الجهاد أروع وأعظم عند الله من نسك النساك، ويقدم لنا ابن المبارك نفسه وثيقة طريفة توضح ذلك أتم توضيح، فقد روى الرواة أنه أملى وهو بطرسوس رسالة شعرية وجّه بها إلى الفضيل ابن عياض الناسك المشهور فى سنة سبع وسبعين ومائة، وكان مجاورا بمكة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك فى العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضّب
أو كان يتعب خيله فى باطل ... فخيولنا يوم الصّبيحة تتعب